ناصر زيدان التميمي
لطالما كان الإنسان لغزًا، تتعدد طبقاته وتتباين خفاياه. وفي رحلة استكشاف هذا الكائن المعقد، تبرز عبارتان كالضوء الكاشف: «إذا حاورت إنسانًا تجولت في عقله، وإذا أغضبته رأيت أخلاقه».
هاتان المقولتان تلخصان ببراعة منهجين أساسيين لفهم جوهر الشخصية الإنسانية. الحوار ليس تبادل للكلمات، بل هو جسر يُقام بين الأفكار والمنظورات. عندما تحاور إنسانًا بعمق وإنصات، فإنك لا تستمع فقط إلى ما يقول، بل تخترق السطح لتتجول في أعماق عالمه العقلي. الحوار الجاد يفصح عن منطق التفكير وكيف يحلل الأمور، ويكشف عن ثراء المعرفة وحصيلته الثقافية وعمق اطلاعه، ويبين مدى نضج الرؤى وقدرته على تقبل الرأي الآخر ومرونته الفكرية، في ساحة الحوار الهادئ، يتجلى العقل في أبهى صوره، منظّمًا ومستعدًا للعرض، وكأنك تسير في ممرات مكتبة واسعة، كل رف فيها يحمل فكرة.
أما الجزء الثاني من المعادلة، وهو الغضب، فهو اللحظة الفارقة التي يسقط فيها قناع التكلّف. الغضب هو المحك الحقيقي الذي يختبر جوهر الإنسان، حيث تضعف السيطرة العقلانية وتبرز المكنونات الداخلية، وفي شدة الانفعال، تظهر حقيقة الأخلاق، فنرى ضبط النفس والتحكم، وهل يتحول الإنسان إلى لسان جارح ويد عابثة، أم يظل متمسكًا بزمام العقل حتى وهو يتألم أو يختلف. كما يظهر احترام الآخر، وهل يتجاوز الخطوط الحمراء ويسفه من شخصية محاوره، أم يحافظ على الاحترام حتى في ذروة الخلاف. والأهم، يظهر العدل والإنصاف، وهل ينسى الفضل ويجحد الإحسان في لحظة الغضب، أم يظل منصفًا، لا يدفعه الانفعال إلى الظلم. إذا كان الحوار يُظهر ما «يعرف» الإنسان، فإن الغضب يُظهر ما «هو» عليه الإنسان حقًا. فالأخلاق الفاضلة ليست تلك التي تظهر في أوقات الرخاء والهدوء، بل تلك التي تصمد أمام رياح الغضب الهوجاء.
لفهم الآخر فهمًا شاملاً ومتكاملاً، لا بد من الجمع بين المنهجين. حاوره لتفهم عقله وتُثري معرفتك بمنظوره، وراقب سلوكه عندما يُغضب لتكتشف أخلاقه وتُحدد مدى صدق شخصيته.
إن العلاقة بين الحوار والغضب هي علاقة تكاملية: الأول يرسم خريطة الفكر، والثاني يكشف عن بوصلة القلب، وبدمجهما معًا، نصل إلى صورة أوضح وأعمق لجوهر الإنسان.