رسيني الرسيني
في قلب الرياض، حيث يلتقي عبق الماضي بنبض الحاضر، يقف متحف العملات في البنك المركزي السعودي شاهدًا على رحلة الإنسان مع القيمة والمعنى. إذ نجد بين جدرانه العملاقة الهادئة نبض حكايات تمتد لأكثر من أربعة عشر قرنًا، تروي قصة الحضارات التي مرّت، والنقود التي كانت مرآةً لزمنها وسفيرًا له. هناك في المتحف لا تُعرض القطع المعدنية والورقية فحسب، بل تُستحضر روح التاريخ في أبهى صورها؛ حيث تمتزج الهوية السعودية العريقة بإرثٍ إنساني خالد، لتجعل من المتحف بوابةً تُطل على ذاكرة وطنٍ يحفظ ماضيه العريق ليبني به مستقبله الواعد.
يُعد متحف العملات في البنك المركزي السعودي من أبرز المتاحف المتخصصة القليلة على مستوى العالم التي تُوثّق تطوّر النقود منذ ما قبل الإسلام وحتى العصر الحديث. إذ يضم المتحف مقتنيات نادرة تمتد لقرون مضت، تشمل النقود الإسلامية منذ صدر الإسلام، مرورًا بالعصور الأموية والعباسية والعثمانية، ووصولًا إلى العهد السعودي، بالإضافة إلى نقود ما قبل الإسلام التي تعكس النشاط التجاري والحضاري وتُبرز المكانة التاريخية والاقتصادية للمنطقة، ودورها المحوري في حركة التجارة العالمية القديمة التي ربطت الشرق بالغرب عبر طرق القوافل والحج. وبذكر موسم الحج أدعو القارئ الكريم لقراءة مقالة سابقة لي بعنوان: «وسائل الدفع للحجاج.. من النقد إلى الرقمنة».
من الناحية الاقتصادية، يحمل المتحف أهمية بالغة؛ فهو يعزز الوعي المالي والتاريخي لدى الزوار، ويساعدهم على فهم تطور المفاهيم الاقتصادية والنقدية عبر العصور، مما يُسهم في بناء ثقافة اقتصادية متجذّرة. كما يُبرز الدور الريادي للمملكة في تطوير النظام النقدي والمحافظة على استقرار العملة الوطنية، وهو عامل حيوي في دعم الاقتصاد الكلي وتعزيز الثقة في السوق المحلي والعالمي. كما أن المحافظة على هذا الإرث المادي تُعد جزءًا من الاستثمار في الثقافة الاقتصادية، إذ تسهم المتاحف المتخصصة في تعزيز السياحة الداخلية وجذب المهتمين من أنحاء العالم، ما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني ويُعزز مكانة المملكة كمركز ثقافي واقتصادي في المنطقة.
ومن زاوية أخرى، يُعد المتحف وسيلة للحفاظ على الإرث الوطني والهوية الاقتصادية السعودية، إذ يُجسد مسيرة العملة كرمز للسيادة والاستقلال المالي، ويُبرز جهود القيادة في بناء اقتصاد متين قائم على مؤسسات راسخة. كما يُمثل منصة تعليمية وثقافية تتيح للطلاب والباحثين الاطلاع على تطور النقود وأثرها في حركة الاقتصاد، وتُسهم في تعميق الوعي بتاريخ النقد السعودي بوصفه أحد أعمدة التاريخ الوطني.
ولذلك يمكن القول: إن المتحف ليس مجرد معرض، بل هو شاهد حيّ على مسيرة أمة، وذاكرة تنبض بتاريخها الاقتصادي الممتد من المقايضة البسيطة إلى أحدث أشكال الإصدار النقدي والأمان المالي والتطور التقني للمدفوعات الذي نعيشه اليوم.
حسنًا، ثم ماذا؟
للمهتمين بالاطلاع على كيف كانت النقود وكيف أصبحت الآن، أدعوهم لقراءة كتاب: «تطور النقود في المملكة العربية السعودية» الصادر عن البنك المركزي السعودي، والذي يسلط الضوء على تطورات النظام النقدي السعودي، وتاريخ النقود المتداولة قبل تأسيس المملكة، والإصدارات المختلفة من العملة الورقية والمعدنية والعملات التذكارية.