د. محمد بن إبراهيم الملحم
استمراراً للحديث عن تقرير تاليس TALIS حول التعليم في السعودية والذي صدر قبل ثلاثة أسابيع فمن اللافت للانتباه من خلال نتائج هذه الدراسة أن المعلمين ينظرون إلى مهنتهم بإيجابية أكثر مما يقوله معلمو بقية الدول المشاركة في هذه الدراسة، حيث يعتقد 77 % من معلمينا أن مهنة التعليم تحظى بالتقدير في المجتمع، وهي نسبة عالية جداً مقارنة بمتوسط بقية الدول والذي لم يتعدى 22 % (أي إنها أكثر من ثلاثة أضعاف المتوسط)، بل إن هذا التصور لدى المعلمين والمعلمات ارتفع عمَّا كان عليه في الدورة السابقة في 2018، حيث كان 52 % من المعلمين والمعلمات يرون أن مهنتهم مقدرة لدى المجتمع، وكانت هذه النسبة ضعف متوسط بقية الدول آنذاك والذي هو 26 % فقط. وفي الحقيقة أسعدتني كثيراً رؤية هذه النتيجة الإيجابية لدى معلمينا ومعلماتنا وهو أمر يعد بتنامي الولاء للمهنة وحبها مع تقدم الزمن إذا استمرت هذه المشاعر في الانتشار والنمو التدريجي، وعلى المؤسسات التربوية أن تستثمر هذا الزخم الكمي الجيد وتحافظ عليه، بل وتنميه أكثر بمزيد من أنشطة ربط المعلم بمهنته وتحسين سمعتها اجتماعياً.
ولكن من اللافت أكثر أن هذه المشاعر الإيجابية العالية استمرت أيضاً في مجالات أخرى، حيث يشعر 84 % من المعلمين والمعلمات بأن آراءهم مُقدَّرة عند صانعي السياسة التعليمية، وهي نسبة تعادل أربعة أضعاف متوسط بقية الدول والذي هو 16 %، كما أنها ارتفعت كثيراً عمَّا كانت عليه في 2018 وهو 35 % وكانت حينذاك ضعف متوسط بقية الدول والذي هو 16 %، بل هناك 52 % منهم قالوا إنهم يستطيعون أن يؤثروا على السياسات التعليمية! وهذان المجالان وضحهما الجدول Figure11.5.16 في تقرير 2018 ويمكن فيه ملاحظة أن إجابتنا جاءت بنسبة أعلى من نسب دول متقدمة مثل أستراليا وفنلندا والنرويج وكوريا والنمسا والولايات المتحدة الأمريكية! وفي الحقيقة لا أعرف كيف أعبر عن هذه النتيجة المحيرة، فعلى الرغم أني أسعد برؤيتها لما فيها من الإيجابية الجميلة التي نسأل الله أن تستمر وتكون حقيقية ومنعكسة على أداء المعلمين والمعلمات وانتمائهم لمهنتهم، ولكنها تجلب الحيرة لتناقضها مع ما نتعايش معه يومياً تقريباً من واقع أحاديث المعلمين وحواراتهم وتعليقاتهم سواء في الأحاديث الشخصية أو عبر السوشال ميديا أو حتى أثناء بعض اللقاءات الرسمية.. فالمعلم دائماً يشكو أنه يتفاجأ بما يصدر من القرارات المنظمة للعملية التربوية (وهي المقصودة عندما تذكر الدراسة تعبير «السياسات التعليمية») كما أن المعلمين يطالبون بأن يكون لهم قنوات تواصل مع كبار المسؤولين تُؤخذ فيها آراؤهم بجدية ويستفاد من خبراتهم ورؤيتهم التربوية، وبخاصة المعلمون المخضرمون منهم، فكيف نجمع بين هاتين الحقيقتين: أقصد تلك الأرقام العالية إيجابياً وواقع محتوى نقاشات وتعليقات المعلمين السلبية. وأخشى ما أخشاه أن يكون المفهوم المتكون لدى عدد من المعلمين عند استجابتهم لهذا السؤال حول «السياسة التعليمية» منصباً على مفردة «السياسة» فيقدموا فيه رأياً إيجابياً حتى لا يقعوا في إشكال ولا شك أن مثل هذا الظن وإن كنت أستبعده لن تكشفه إلا دراسة أخرى محلية تطبَّق حول المفاهيم الخاطئة المتوقعة لبعض الأسئلة بسبب بعض مفرداتها غير الشائعة في مجتمعنا. وكمثال على ذلك حالة هذا السؤال، حيث تعبير «السياسة التعليمية» يقابلها في ثقافتنا السائدة وبلغة مبسطة لأدنى مستوى فهم يمكنك تصوره تعبير: «التعاميم الإدارية المنظمة للعمل التربوي». وللحديث بقية.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً