أ.د.عثمان بن صالح العامر
نما إلى علمي ظهر يوم الأحد الماضي 5/ 5/ 1447هـ، الموافق 27/ 10/ 2025م، وفاة أستاذي القدير، فضيلة الدكتور: محمد بن عبد الله بن سليمان عرفة الذي تشرّفت بدراسة مقرر الثقافة الإسلامية (متطلب عام) على يده، حين كنت طالباً في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية،كلية الشريعة، قسم الاقتصاد الإسلامي، وذلك في العام الجامعي 1404- 1405 هـ، وتوسم حينها فيّ أنني مشروع ثقافي واعد، فعرض عليّ -رحمه الله- أن أكمل دراستي العليا في الثقافة الإسلامية، واقنعني بأسلوبه الأخاذ، وتواضعه الجم، ونبل حديثه، وبيان حرصه علىّ شخصياً التقدم للكلية في مسار (الثقافة الإسلامية)، وبالفعل درست الماجستير والدكتوراه في هذا المجال، وكان لي نيل شرف الظفر بإشرافه عليّ في كلتا المرحلتين، ومع ما حظيت به منه -رحمه الله- من اهتمام ورعاية، وتحفيز وتشجيع، وإرشاد وتسديد، فقد كان أنموذجاً للإخلاص والتفاني، وقدوة في التعلّم والتعليم، متميزاً في دماثة الخلق، ورقي التعامل، وحسن السجايا، يجد منه طالبه الاحترام والتقدير، والإشعار بالأبوة الحانية، والحب العميق، والرحمة الفياضة، ويلحظ في شخصيته العقلية المتزنة، والرساخة العلمية المأصلة، والوطنية الصادقة المتجذرة، والرصانة والاتزان، وقلة الحديث، وسبك الكلام، والتثبت قبل إصدار الأحكام. تعلَّمت منه فن الإنصات الجيد، والاستماع الكامل للمتحدث حتى وإن كان طالباً ما زال في مرحلة الكسب، استفدت من مجالستي إياه والتشرّف بالارتباط المباشر به طوال السبع السنوات آلية التفكير السليم، ومنهجية البحث الصحيحة، وسلامة الطوية، والحوار الحر، والقدرة على امتلاك مهارة النقد البناء للأفكار بعيداً عن الأهواء والنزوات والحماس غير المنضبط بضابط الشرع. لم أسمع منه طوال هذه السنوات الخضر كلمة نابية، أو عبارة جارحة، أو قولاً فظاً وغليظاً، بل كان رحيماً بي، ودوداً معي، يصحح مساري العلمي بحنكة وحكمة قل مثيلها. أذكر من المواقف التي أشاد بها في غيابي، وثمنها لي -رحمه الله- حين مناقشتي، أنه كان مكلفاً بترؤس لجنة التعاقد لجامعة الإمام في القاهرة فترة إجازة نهاية العام الجامعي، وكان قد طلب مني تسليمه جزءًاً من الرسالة، وما إن أنهيت المطلوب حتى سافرت هناك، وتفاجأ بدخولي عليه في مقر اللجنة، فسره حرصي، وأسعده مجيئي، الأمر الذي جعله يحثني على المبادرة في البحث الجاد عن موضوع أتقدم به لنيل درجة الدكتوراه حتى يتسنىلي التسجيل فور انتهاء المناقشة، وبالفعل تحقق ذلك بفضل الله عزَّ وجلَّ ثم بفضل أستاذي القدير الذي لن أنسى معروفه عليّ ما بقيت على قيد الحياة.
ولما كانت الفترة محل الحديث تشهد حرب الخليج الثانية وغزو العراق الكويت والأحاديث والتحليلات والمقالات جلها في تلك الأيام تدور حول المنطلقات الفكرية التي تقف خلف هذا المشروع البعثي التوسعي من قبل شخصية صدام حسين، انصب تركيزي حين الاختيار بشكل مباشر على الفكر القومي العربي، وبعد تفحص وتحليل لهذا الخطاب الإقصائي، ومشاورات ومداورات، واستخارة ودعاء، انتهى بي الحال إلى اختيار موضوع (إشكالية النهضة في الفكر القومي العربي - دراسة نقدية في ضوء الثقافة الإسلامية). ولم أكن لأسلك هذا الطريق الشائك والصعب، المليء بالتعرجات والتحولات الفكرية والسياسية لولا توفيق الله عزَّ وجلَّ ثم دعم وتشجيع ومساندة أستاذي القدير د. محمد عرفة -رحمه الله رحمة واسعة- الذي كان يتابعني أولاً بأول، ويبعث معي خطابات لمن يعرف من الأكاديميين الذين عملوا في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، سواء أكانوا في دمشق أو القاهرة أو العاصمة الأردنية عمان، وهذا أتاح لي شرف اللقاء بعدد من أساتذة الجامعات المبرزين والمفكرين العرب الذين يكنون لأستاذي القدير الإجلال والتبجيل حتى وإن اختلفت المرجعيات الفكرية، وتباينت التخصصات العلمية.
لقد كان -رحمه الله- أنموذجاً رائعاً للأكاديمي الناجح بامتياز، ترك فيَّ بصمة علمية وأخلاقية أثَّرت عليّ طوال مسار حياتي الأكاديمية حالي حال كثير من الطلاب الذين أشرف عليهم في دراساتهم العليا أو حتى درَّسهم مقرر الثقافة الإسلامية في البكالوريوس أو عملوا معه حين كان وكيلاً لعمادة كلية اللغة العربية والعلوم الاجتماعية في جامعة الإمام ومن بعد عميداً للقبول والتسجيل في ذات الجامعة، أو كان زميلاً لهم تحت قبة مجلس الشورى حين كان عضواً فيه.
رحم الله فضيلة الأستاذ الدكتور محمد بن عبدالله عرفة، وأسكنه فسيح جناته، وجعل ما أصابه في سنواته الأخيرة رفعاً لدرجاته وصولاً للفردوس الأعلى عند أرحم الراحمين، ورزق أهله وذويه وطلابه ومحبيه الصبر والسلوان، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، وإلى لقاء، والسلام.