عبدالله العولقي
قبل عدةِ عقودٍ، صرّح الناقدُ الدكتورُ جابر عصفور -رحمه الله- أننا نعيشُ زمنَ الرواية، وأنّ الشعرَ الذي اتخذ سمة ديوان العرب خلال العصور الماضية لمْ يعدْ كذلك، وكان يقصدُ أنّ الرواية قد باتت اليومَ هي ديوانُ العرب، كان هذا التصريحُ في تسعينيّات القرن الماضي، بعد سنواتٍ معدودةٍ من حصولِ الكاتب نجيب محفوظ على جائزةِ نوبل في أدبِ الرّواية، وقُبيل وفاة عمالقة القصيدة العربية كمحمد مهدي الجواهريّ وعبدالله البردوني ونزار قباني، فكان تصريحُ الدكتور عصفور عن قراءةٍ نقديّة لواقع تراجع الاهتمام الثقافي العربي بالشعر، لكنّنا اليوم أمام حالةِ يقظةٍ أدبيةٍ يستعيدُ الشعرُ من خلالها مكانته، ويُثبتُ أنّ الشعرَ كان ولا يزال ديوانُ العرب، وبطلُ هذه العودة في السنواتِ الأخيرة هو شاعرُنا الكبير جاسم الصحيّح، الشاعرُ المثقفُ الفيلسوفُ الذي أعاد للقصيدةِ العربيةِ وهجَها ومكانتَها.
هذا الشاعرُ الذي يرسمُ الدهشةَ الفطريّةَ على وجوهِ المُتلقّين لقصائدِه وأشعارِه؛ فهو الصحيّحُ الذي يُفلسفُ الكلمةَ ويخترعُ المعاني التي تمتزجُ مع روحِ الثقافةِ العربية، وفي ذاتِ الوقت، هو الشاعرُ الذي يرسمُ الحزنَ على وجوهِ رفاقِه الشعراءِ عندما يُدْركون أنّه مُنافسُهم في المُسابقات الشعريّة، فهو الحاصدُ الأولُ لأغلب جوائز المسابقات الأدبيّة والشعريّة في الوطنِ العربي، فموهبتُه المُتفجّرةُ في الشعر بوّأته ليكونَ اليوم الشاعر الأول في ساحةِ القصيدة العربية.
حصدَ الصحيّح أهمّ الجوائز الثقافيّة العربيّة لفنّ الشعر لعلّ أبرزها، جائزة البابطين عنْ أفضل قصيدة عربيّة (عنترة في الأسر) عام 1998م، وجائزة أبها الثقافية عام 1998م عن ديوان (ظلّي خليفتي عليكم)، وجائزة راشد بن حميد للثقافة والفنون بعجمان لعدةِ سنوات، وجائزة الثبيتي عن أفضل ديوان شعر (كي لا يميل الكوكب) عام 2015م، وجائزة وزارة الثقافة في المملكة عام 2016م عن الأعمال الشعريّة، وجائزة شاعر عكاظ عام 2018م، وجائزة السنوسي عن ديوان (قريب من البحر، بعيد عن الزرقة) عام 2020م وغيرها.
ففي آخرِ عقدين، يُمكننا القول إنّ الشاعرَ السعوديَّ جاسم الصحيح قدْ تبوّأ عرشَ القصيدةِ العربية، ولا غرو، فظاهرتُه الشعريّة تُشكلُ امتداداً إبداعيّا لزمنيّة القصيدةِ العربيةِ منذ نشأتها الجاهلية التي ارتقتْ من بداياتِها الأولى وتصاعدتْ فنيّاً حتى وصلتْ إلى ذروتِها الابداعيّة عند امرئ القيس:
خَبَالًا يا (امْرَأَ القيسِ) انْعَطِفْ بي
لِـ(ـدارةِ جُلجُلٍ) أحيا خَبَالي
هذا الامتدادُ الزمنيُّ والفنيُّ الذي وصلتْ قمّته الثانية عند كبير الشعراءِ المتنبّي، الذي وجد الصحيّح فيه روحَه المتقاربة:
فـ(أنا) كـ(أنتَ)، تعبْتُ من عبَثيّتي
فِي فهْمِ مفتاحِ الوُجودِ وقُفْلِهِ
ورجعْتُ أحْصُدُ عُشْبَ خيبتِكَ الذي
ما انفكّ يُغري المبْدعين بأكْلِهِ
يؤكّدُ الأستاذ جاسم الصحيّح أنّ امتدادَ القصيدةِ العربيّةِ في تجربته الشعريّة يتجافى مع مدرسة العذريّين المثاليّة لأنّ تجربة الحبّ في حياته نادرةً جداً، فيقولُ في إحدى لقاءاته: لقدْ كانتْ لكلّ الصبايا نكهةً واحدةً في روحي، لأنّي لمْ أُجرّبُ الحبَّ الذي يمنحُ المرأةَ طعمَ الفرادة، ولستُ من الشعراء العذريّين!!، ولذا نقولُ إنّ تجربة الشاعر الصحيّح هيَ تجربة ثريّة عميقة تستندْ إلى خبرة ذاتيّة متراكمة، هذه الخبرة أهّلته إلى أنْ يكونَ صاحب مدرسةٍ فنيّةٍ خاصّةٍ في عالمِ الشعر.
وإذا فتّشنا عن وجهٍ من أوجهِ الإبداعِ في تجربةِ الصحيّح الشعريّة للاحتْ لنا قدرته الفائقة على الموازنة الإبداعيّة بين الشكلِ والمضمون، أو بين اللفظ ِ والمعنى، وهذه الموازنةُ هي التي تحدّثَ عنها البلاغيّون قديماً في مراجعهم ونصّبوها معياراً فنيّأً في مقارناتهم بين الشعراء، فاللفظُ عندَ الصحيّحِ مُختارٌ بعنايةٍ فائقةٍ، أمّا المعْنى فيستندُ إلى مخزونِ الشاعرِ الثقافي واطلاعِه الواسعِ على الموروثِ الأدبيِّ والفكريِّ الفلسفي، فهو صاحبُ رؤيةٍ فلسفيةٍ يُبْدعُ في توظيفها جيّداً داخل قصائدِه، فنجدُ ابداعيّاته تتجسّدُ بصورةٍ خاصةٍ في موضوع الغزل، وحول هذا الموضوع تتعدّدُ الأفكارُ التي يُغذّيها الصحيّحُ بتجلّياتِه كموضوعِ الجسدِ الذي يكونُ حضورُه طاغياً في شعره:
الشّعرُ في جَسَدِ العشّاق موطنه
بئسّ القصائدُ لمْ تُنْحتْ من الجسدِ
فهو يمزجُ بين القصيدةِ المؤنثةِ والجسد:
الوحيُ مِن كلِّ عضوٍ فيكِ يُلهِمني
أنَّ القصيدةَ مِن أشكالِها الجسدُ
فيأتي الجسدُ هنا بالتعبير الموازي لجمال التضريسِ الأُنثوي إنْ صحّ التعبير، فالأنثى هي الكائنُ الذي يشغلُ حيّزاً كبيراً في شعره وإبداعِه الفنّي، يقول أحدُ النقاد المهتمّين بأدبِ الصحيّح: تصلُ هذه الرحابة الأنثوية إلى حدودها القصوى في شعر جاسم الصحيّح إلى (تأنيث العالم)، فالأحياء والأشياء تتلبّس في قصائدِه بروحِ المرأةِ ونكهةِ الأنوثة:
كلُّ شيءٍ في الحسنِ ندعوه أنثى
حين تجلوه راحةُ الشعراءِ
فإذا النسوةُ المليحاتُ خمرٌ
ننْتشيها، والخمرُ إحدى النساءِ
ومن خلال تتبّعِ ملامح الظاهرة الإبداعية في شخصيّة الصحيّح نجدُ عفويّة الشعر في روحه، وتلقائيّة الفصاحة في حديثه وكتاباته، فهو شاعرٌ مطبوعٌ غير مُتكلّفٍ في بناءِ القصيدة، كما أنّ ثقافته الواسعة وحُبّه للغوصِ في الآداب والفنونِ والفلسفةِ جعل انتاجَه ثريّاً في المادةِ والمُحتوى، فتكوينُ النص عند الصحيّح يأتي من تجربته العميقة في التقاط مشاهد الحياة اليوميّة وتصويرها بلغته الشاعرية البديعة، فعلى سبيل المثال، يتضايقُ الجمهورُ من مشهدِ قرقعة صوتِ كعبِ الأنثى، وربّما ينتابهم شيءٌ من الضيق عند سماعِه، لكنّ الصحيّحَ وحده من يُفلسفُ هذه الإلتقاطة اليوميّة ليقلبَ مشهدَ المعادلةِ عندما يُحوّلُ صوتَ الازعاج إلى نغمٍ موسيقيٍ مُترف:
جرْسُ القصيدةِ من ساقيكِ منْبعهُ
لا ينبعُ الشعرُ من حجْلٍ وخُلْخالِ
هذي خطاكِ على قلبي، قد اتخذتْ
شكلَ الندوبِ على أكتافِ عتالِ
كمْ للموسيقى من الآلات، سيّدتي
عُدّي معِي، واضيفي كعْبكِ العالي!
وهنا يكمنُ ابداعَه الفنّي في التقاط الصورةِ الفنيّةِ من مشاهدِ الحياةِ اليوميّة أولاً، ثم إلقاء المسحة الابداعية البلاغيّة على النص ثانياَ، فتجدهُ يتلاعبُ بالعبارةِ أمام المتلقّي حتى يرسمَ الدهشة على محيّاه:
أطهو المجازاتِ من لحْمي مُتبّلةً
بالحبِّ، والكونُ مدعوٌ إلى طَبَقي
أُدلّلُ الليلَ بالأنثى الحنونِ كما
يُدلّلُ الشايَ بالنعناعِ والحبقِ
وأمامنا اليومَ رائعةً من روائع شاعرنا الكبير، حيث تقع القصيدة في 15 بيتا، نصفُ القصيدة في وصف جمال الأنثى التي سلبت عقلَ الشاعر، ولكنّ المهندسَ الشاعرَ يُقسّمُ هذا النصف ما بين مطلع القصيدة وختامها، وهذا من الهندسةِ الفنيّة الرائعةِ للقصيدة، ولا غرو فالشاعر جاسم الصحيّح درس الهندسة في الولايات المتحدة، وعاد بشهادته الجامعيّة ليعملَ مُهندساً في شركة أرامكو العملاقة.
ما أعنيه أنّ المُتتبعَ لأثر التنظيم الهندسي وتصميمه الجماليِّ في شعر الصحيّح يلمحه بصورةٍ جليّةٍ داخل شعره وقصائده، فهو يُعرّفُ الشعرَ بأنّه هندسة الذاتِ بالكلمات، وفي قصيدتِه التي نحن بصددها الآن، نجدُ استهلاله الافتتاحي يبتدأ في وصْفِ جمالِ الأنثى من خلال أربعةِ أبيات، ثم بيتين لوصف حالته النفسية إمام ذلك الإغواء الأنثوي، ثم خمسة أبياتٍ لحوارٍ تخيّليٍّ بين الطرفين، ثمّ العودةُ مرةً أخرى إلى وصْفِ ذلك الجمال، وهنا تكمنُ خطورة الشاعر، فبدون مُقدّماتٍ يبتدأ على الفور باستهلالٍ غير مألوف في تقليد القصيدة العربيّة، وأعني البداية بحرفِ الجر، فهذه الجُرأةُ الكبيرةُ على الخروجِ عنْ مسارِ المألوفِ لا يُجيدُها إلا الشعراءُ الموهوبون الكبار:
في كلِّ عُضوٍ منكِ رُوحُ تقىً
تُضفي عليه جمالُه الأنقى
فكأنّ خصرَكِ وسْطَ عُزلته
مُتصوّفٌ للعالمِ الأبقى
فنلمحُ هنا هذه البداية وهي تستعرضُ جماليّتها أمامَ ذهنِ القارئ باستدعاءٍ صريحٍ للثقافة الصُّوفيّة الدينيّة إنْ صحّ التعبير، النقاءُ والورعُ والتقوى والتصوفُ والعروةُ الوثقى:
وكأنّ جيدَك في استقامته
مُتمسكٌ بالعروةِ الوثقى
في الخصر مافي الجيدِ من ورعٍ
لا تسألي منْ منهما الأتقى
بعد هذه الافتتاحية الوصفيّة المباشرة ينتقلُ الشاعرُ ببراعةِ الحصيفِ من الخارجِ (للآخر) إلى الداخلِ (للذات)، وأعْني من وصْفِ جسدِ الجمالِ الخارجيِّ للأنثى إلى وصْفٍ نفسيٍّ لداخلِ الشاعرِ ومشاعرِه وأحاسيسِه، وهذه الانتقاليّة الفنيّة من الحسّي إلى المعنوي تستدعي التخلّي عن استدعائيّة ثقافة التصوّفِ الديني والتحوّل إلى استدعائيّة معنى الماء (أصْلُ الوجودِ البشري المقترن مع فطرة النشأة الأولى)، فقدْ تطلّبتْ هنا الفلسفة الشعريّة أنْ يستدعي الشاعرُ تلك الحالة المائيّة الفطريّة التي تتواءمُ مع حالةِ العشقِ الغريزيِّ التي يعيشُها الشاعرُ أمامَ فتنةِ الجمالِ الأنثوي، فاستدعائيّة الماء هنا جاءتْ كوصفٍ للحالةِ النفسيّةِ للعاشقِ بصورةِ السيلِ الجارفِ الذي يُخلّفُ الغرقَ والضحايا:
وجوارحي بهواكِ قد غرقتْ فأنا هنا سيلٌ من الغرْقى
وأنا الضّحَايا في حقِيقتِهم
لا تطْلُبي من غيرِهم صِدْقا
أمّا واسطةُ عِقْدِ القصيدة، فهي الأبياتُ الخمسةُ التي تقعُ بين الوصْفين، وليتأمّلُ القارئُ الكريمُ روعةَ التنظيم الهندسيِّ للأبيات، فهي المتضمّنةُ للحواريّة التخيليّة بين الطرفين، وهنا يمزجُ الصحيّحُ بين الاستدعائيّة الصوفيّة الدينيّة وبين المائيّة الفطريّة، فيعودُ بنا مباشرةً إلى جذور الفطرةِ وأصلِ النشأةِ الأولى:
هيا اعْشقِيني كي يُتاحَ لنا
أنْ نستعيدَ لنفْسنا الخلْقا
ليلجأ الشاعرُ بعدها إلى أسلوبِ الشرطِ وجوابِه، وهو من أساليبِ الصحيّح الفنيّة التي يُجيدُ استخدامها وتوظيفها إبداعيّاً في شعره:
إنْ لمْ تخوضي البحرَ ذاتَ
هوىً قبْلي، ولمْ تسْتكشفي العُمْقا
ففراشةٌ في النارِ واحدةٌ
تكْفي لأنْ نتعلمَ العشْقا
فروعةُ استدعاءِ الماءِ (البحر/العمق) ونقيضه (النار) والابداع في استعمالها داخل علاقة العشقِ الفطريِّ (الذكر/الأنثى)، هذه الفطريّة الأصيلة في داخل نشأة الانسان يُبدعُ كذلك الصحيّح في استدعائها الفني وتوظيفها داخل قصيدته بأنْ تجعلَ الفراشة تُعلّمنا العشقَ وتعودُ بنا إلى النقاءِ وفطرةِ الحياة الأولى، وهنا نجدُ الشاعرَ يخرجُ من إطار الجغرافيا الأرضية إلى مدى أوسع في الكون:
هيا اعْشقيني كي نطيرَ إلى
أقْصى المَدى ونُوسّعَ الأفُقا
هذا السفرُ الكونيُّ إلى مداراتٍ أوسع وأبعدَ فضاءً من حيّز جغرافيا الأرض، فنجدْه يُجيدُ هنا توظيف مصطلحاتِ الفضاءِ الممتدِّ لتمنحَ الدهشةَ الصافية في ذهْنِ المتلقّي، مثل (المجرّة، المدار، الغرب، الشرق، الكوكب، البوصلة)، وهذه كلُّها تحتشدُ في الأربع أبياتٍ الأخيرة، تلك الخاتمة التي يتطابقُ جوهرُ فكرتها مع المقدّمة في وصْفِ الأنثى الجميلة، ولكنْ باستدعائيّة تختلف، فالمقدّمة كانتْ في وصْفٍ لمحاسنِ الجسدِ باستدعاء الثقافة الصوفيّة، لكنّ الخاتمة تُعبّرُ عن وصفٍ لجمالِها باستدعاءِ ثقافةِ الفضاءِ والكون، تلك الرحابة الممتدة البعيدة:
زنْداك ميزانٌ بثقْلهما
يزنُ المدارَ الغربَ والشرْقا
لا ترْفعي زنداً بمُفْردهِ
كي لا يميلَ الكوكبُ الأشقى
وتمسّكي بالشوقِ بوصلةً
سنضيعُ حين نُضيّعُ الشوقا