حوار أجرته طفلة النفيعي - «الجزيرة»:
بين دفّتي الزمن وعدسات الغرباء، تتكشف ملامح الجزيرة العربية في صورٍ قديمةٍ تحمل عبق المكان ووجوه الناس. تلك اللقطات، التي التقطها القادمون من خارج الجزيرة بدهشة وفضول، تحوّلت اليوم إلى ذاكرة المكان والناس، تحفظ تفاصيل الحياة الأولى وتوثّق التحولات الاجتماعية والعمرانية في مدن الصحراء والواحات.
في هذا اللقاء، تتحدث الباحثة السعودية غادة المهنا أبا الخيل لـ»الجزيرة» عن القيمة التاريخية والثقافية لتلك الصور القديمة، بوصفها سجلًا بصريًا يوثّق ماضي الجزيرة ويعيد قراءة تاريخها من منظور إنساني يربط بين الصورة والذاكرة، وبين المكان والهوية.
* كيف تُعرفين الهوية الثقافية السعودية من منظورك كباحثة، وما أبرز مكوناتها التي ترين أنها أساسية لبقاء هذه الهوية؟
- من منظوري الشخصي، الهوية الثقافية السعودية هي حصيلة تراكمات تاريخية واجتماعية طويلة، لا يمكن اختزالها في مرحلة زمنية واحدة أو إطار سياسي محدد. فهي نتاج تحولاتٍ عاشتها المنطقة عبر قرون، من التبادل التجاري إلى التنقل البشري، ومن تنوع البيئات إلى تشابك الأنماط المعيشية.
فالثقافة كما نعرفها اليوم هي استمرار لذلك الإرث المتعدد، لكنها أيضًا نتاج التغيرات التي يعيشها المجتمع في الوقت الراهن. فهي تحمل في داخلها بُعدًا محليًا متجذرًا، وفي الوقت نفسه تتفاعل مع العالم من حولها بوعيٍ جديد.
وأعتقد أن بقاء هذه الهوية يعتمد على قدرتها على الموازنة بين هذين البعدين: المحافظة على جذورها العميقة في المكان والذاكرة، وأن تظل قادرة على التجدد ومواكبة التحولات.
* ما مدى ارتباط الأجيال الشابة اليوم بالهوية الوطنية؟ وهل ترين أن هناك فجوة ثقافية بين الماضي والحاضر؟
- أرى أن الأجيال الشابة اليوم مرتبطة بالهوية الوطنية بطريقة مختلفة عمّا كانت عليه الأجيال السابقة. لم يعد الارتباط يعبّر عن نفسه من خلال المظاهر التقليدية فقط، بل من خلال إعادة تفسير الانتماء بلغتهم وأساليبهم الخاصة - سواء عبر الفن أو الموضة أو الموسيقى أو الخطاب الرقمي.
هناك بالفعل فجوة زمنية وثقافية بين الماضي والحاضر، لكنها لا تعني القطيعة بقدر ما تعبّر عن تحوّل في أدوات التعبير والفهم. الجيل الجديد يعيش في سياق عالمي منفتح وسريع، لكنه في الوقت نفسه يبحث عن جذوره ويعيد اكتشافها بطرق جديدة.
المسألة، في رأيي، ليست في ضعف الارتباط، بل في اختلاف الشكل الذي يتجلى به هذا الارتباط. الهوية لم تتراجع، بل تتطور مع اللغة اليومية للشباب وطريقتهم في قراءة العالم.
* ما هي أبرز الإشكاليات التي تواجه الباحثين في دراسة التراث المحلي؟ هل هي في التوثيق، أم في المصادر، أم في الوعي المجتمعي؟
- أرى أن التحدي الأكبر لا يكمن في الوعي المجتمعي لأن ما شاء الله المجتمع جداً واعٍ بتراثه، لكن الاشكالية هي في الوصول إلى المعرفة الموثقة وتنظيمها. فالمجتمع أصبح أكثر اهتمامًا بالتراث، لكن المشكلة تكمن في غياب تصور واضح لما يُعد مصدرًا أساسيًا للمعلومة وما يُعد مصدرًا ثانويًا أو مكمّلًا.
الكثير من المحتوى المتداول اليوم، رغم قيمته في نشر الاهتمام، لا يمكن الاعتماد عليه كمصدر بحثي، لأنه يفتقر إلى التوثيق أو المرجعية الأكاديمية. في المقابل، توجد منصات رقمية وأرشيفات متخصصة يمكن أن تشكّل قاعدة معرفية قوية، لكنها ما زالت غير معروفة أو غير مستخدمة على نطاق واسع.
من المهم أن نعمل كمجتمع على تعريف مصادرنا المعرفية، وبناء وعي نقدي يميّز بين ما هو مرجعي وما هو سردي أو تفاعلي، لأن المعلومة الموثقة هي أساس أي قراءة حقيقية للتراث.
* كيف يمكن للبحث الأكاديمي والمختص في هذا التراث العريق أن يسهم في الحفاظ على التراث غير المادي كالقصص الشعبية، والعادات، واللهجات؟
- البحث الأكاديمي يمكن أن يلعب دورًا محوريًا في الحفاظ على التراث غير المادي، ليس فقط من خلال التوثيق، بل عبر تبنّي منهجيات واضحة ومنسجمة مع واقعنا المحلي. هناك تجارب عالمية متقدمة في هذا المجال، من مقابلة كبار السن إلى دراسة العادات الشفوية والممارسات اليومية. التحدي الحقيقي هو تكييف هذه التجارب مع خصوصيتنا الثقافية.
كل مجتمع يروي قصته بطريقة مختلفة، وله أسلوبه الخاص في نقل المعرفة. لذلك من المهم أن نطوّر طرق بحث تستمع بعمق إلى الناس وتقرأ التراث في سياقه الاجتماعي، لا كشيء منفصل عن الحياة اليومية. حين نصل إلى هذه المرحلة، يصبح البحث الأكاديمي وسيلة لإحياء التراث لا لمجرّد حفظه، لأن الفهم المنهجي للذاكرة الشعبية هو ما يمنحها حياة واستمرارية.
* في ظِلّ الحراك الثقافي والانفتاح العالمي الذي تعيشه المملكة، هل ترين أن التراث مهدّد بالذوبان، أم أنه أمام فرصة ذهبية ليُعاد تقديمه بصورة نابضة بالحياة ومواكبة للعصر؟
- الثقافة بطبيعتها في حالة تطوّر دائم، ولا يمكن النظر إليها بوصفها شيئًا يذوب أو يثبت في مكانه. فهي تتغيّر مع الإنسان نفسه، من خلال التفاعل والتأثر بالتحوّلات التي يعيشها المجتمع. عبر التاريخ، فعلى سبيل المثال: زمن امرؤ القيس إلى اليوم: هناك عناصر مشتركة في اللغة والخيال والعلاقات الاجتماعية، حتى وإن تغيّرت المظاهر المادية كاللباس والعمارة.
التحوّل لا يعني فقدان الهوية كما يعتقد الكثير، بل هو ما يمنحها استمراريتها. فكل جيل يعيد تفسير ما ورثه بما يتناسب مع واقعه، وهذا ما يجعل الثقافة السعودية اليوم في مرحلة تطوّر طبيعية تُعيد من خلالها اكتشاف ذاتها في ضوء الحاضر.
* من واقع دراستك، ما هي النماذج الناجحة التي استطاعت الدمج بين الحداثة والحفاظ على الأصالة في دول أو مجتمعات مشابهة؟ وهل تعتقدين أن المجتمع السعودي اليوم يمتلك وعيًا كافيًا بقيمة تراثه؟ أم أن هناك حاجة لتعزيز هذا الوعي عبر القنوات الإعلامية والتعليم؟
- ليس هناك نموذج واحد يمكن اعتباره مثاليًا، فكل مجتمع يخوض تجربته الخاصة في التوفيق بين الحداثة والأصالة بحسب تاريخه وظروفه. بعض الدول تقدّم نماذج ملهمة، مثل اليابان التي استطاعت أن تُعبّر عن قيمها الثقافية العميقة حتى في أكثر أشكالها المعاصرة كأفلام الأنمي التي تُعيد طرح موضوعات ترتبط بالروح اليابانية والخيال الجمعي.
وفي ألمانيا، نجد مثالًا مختلفًا يقوم على الذاكرة والاعتراف بالتاريخ؛ حيث يشكّل استحضار الحرب العالمية الثانية جزءًا من وعي المجتمع بنفسه. أما في الولايات المتحدة، فالنقاشات حول إزالة تماثيل رموز الحقبة الكونفدرالية تعبّر عن صراع الهوية وإعادة تعريفها بما يتوافق مع قيم الحاضر. كل هذه التجارب تُظهر أن الثقافة ليست ساكنة، بل في حركة دائمة، تعيد تشكيل ذاتها مع الزمن دون أن تفقد جوهرها.
* برأيك، ما أهمية إدماج التراث المحلي في المناهج الدراسية، وكيف يمكن تحقيق ذلك دون الوقوع في التكرار أو التلقين؟
- أرى أن إدماج التراث المحلي في المناهج الدراسية أمر مهم، لأنه يساعد الأجيال الجديدة على فهم جذورهم وتقدير ما حولهم. لكنني في الوقت نفسه أؤمن بأن الثقافة تُتعلَّم في البيت قبل المدرسة، فهي جزء من الهوية اليومية التي تُنقل من خلال الممارسة والتجربة في الطعام، واللباس، والقصص، والعادات، وكل ما يشكّل تفاصيل الحياة.
تعليم التراث في المدرسة يمكن أن يقدّم الإطار العام، لكن العمق الحقيقي يأتي من البيئة العائلية والاجتماعية. أما كيفية تجنّب التكرار أو التلقين، فهي مسألة تخص التربويين أكثر، لكن ربما يمكن تحقيقها عبر ربط التراث بالممارسة لا بالحفظ، ليصبح جزءًا من الفهم الحيّ لا مجرد مادة دراسية.
* العالم أصبح قرية واحدة والمتغيرات متسارعة، ما هي التحديات التي تواجه الجهات المعنية بالحفاظ على التراث الثقافي في المملكة؟
- أظن أن فكرة أن العالم أصبح قرية واحدة فيها قدر من المبالغة. الإنترنت أعطانا هذا الانطباع، لكنه في الحقيقة كشف لنا كم أن العالم لا يزال واسعًا ومعقدًا، وأن هناك الكثير مما لم نكتشفه بعد. أنا لا أشعر بالقلق تجاه مسألة الحفاظ على التراث، لأن من يؤمن بثقافته ويعيشها بصدق سيجد دائمًا طرقًا مبتكرة للتعبير عنها. فالحفاظ على التراث لا يعني الجمود، بل القدرة على التفاعل، على الحوار مع الآخرين، وعلى اكتشاف العالم الداخلي الذي يدفعنا لأن نُعيد تشكيل العالم من حولنا كما نراه ونؤمن به.
* كيف ترين جهود المملكة في الحفاظ على المواقع الأثرية والتاريخية؟ وهل تعتقدين أن هناك ما يكفي من الوعي الشعبي تجاه قيمتها؟
- الجهود المبذولة واضحة ومستمرة، وهناك تحوّل حقيقي في طريقة التعامل مع المواقع الأثرية والتاريخية من حيث التوثيق، والحماية، وإعادة إحياء هذه الأماكن كجزء من المشهد الثقافي العام. أما الوعي الشعبي، فأراه في ازدياد مستمر، خصوصًا مع تعدد المبادرات والفعاليات التي تُقرّب الناس من تراثهم وتجعلهم أكثر ارتباطًا به.
* بعض البيوت والأسواق القديمة تُهدم أو تُستبدل بمشاريع حديثة، كيف يمكن تحقيق التوازن بين التطوير العمراني والحفاظ على الطابع التراثي؟
- لست متخصّصة في العمارة، وأفترض أن هناك جهات تقوم بدراسة وتقييم دقيق قبل أي مشروع تطويري، خصوصًا حين يتعلّق الأمر بمواقع ذات قيمة ثقافية. لكن برأيي، التوازن لا يتحقق بالمنع أو بالهدم، بل بالفهم. إن نُدرك أن التطوير يمكن أن يستفيد من روح المكان لا أن يلغيه. الحفاظ على الطابع التراثي لا يعني رفض الحداثة، بل دمج الذاكرة في الحاضر بطريقة تحافظ على هوية المكان وتمنحه حياة جديدة.
* ما العادة أو القيمة الاجتماعية التي تشعرين أنها مهددة بالاندثار؟ وكيف يمكن إحياؤها في المجتمع الحديث؟
- لا أرى أن العادات «تندثر» بالمعنى الحرفي، بقدر ما تتغيّر وتتحوّل مع الزمن. فالثقافة بطبيعتها ديناميكية، وما يغيب منها إنما يأخذ شكلاً جديدًا في سياق مختلف. لذلك لا أشعر بالقلق من التغيّر، بل أرى أن دورنا هو احترام ما مضى وتوثيقه وإتاحة الوصول إليه، ليبقى جزءًا من الذاكرة الجماعية حتى وإن لم يعد جزءًا من الممارسة اليومية.
* كيف يمكن توظيف المناسبات الوطنية والشعبية والفعاليات الثقافية في تعزيز ارتباط الشباب بالتراث؟
- أعتقد أن أهم ما يمكن فعله هو منح الشباب مساحة لإعادة تفسير التراث بطريقتهم الخاصة. فكل جيل يرى الأشياء من زاويته الخاصة، ويعيش تجاربه المختلفة، وهذا ما يجعل الثقافة مستمرة ومتجددة. عندما يُسمح للشباب بالمشاركة في صياغة المعنى، يتحول التراث من شيء يُحتفى به من الخارج إلى تجربة حية يُعيدون اكتشافها من الداخل.
* هل تؤيدين تدريس تاريخ التراث غير المادي ضمن المناهج التعليمية لتعزيز الانتماء الثقافي؟
- أؤيد تدريس التراث غير المادي، لكن ليس بشكل يقتصر على تراثنا فقط. من المهم أن يتعرّف الطلاب على تنوّع الثقافات الأخرى أيضًا، لأن فهم الذات لا يكتمل إلا من خلال معرفة الآخر.
التراث الإنساني في جوهره مترابط، وفيه تشابهات واختلافات تُظهر جمال التجربة البشرية. عندما نُدرّس التراث بهذه الروح، نُعزّز الانتماء لا من خلال العزلة، بل من خلال الوعي بأننا جزء من مجتمع إنساني أكبر.
* كيف ترين رؤية السعودية الطموحة 2030 في إبراز الهوية السعودية وحماية التراث من النسيان محليًا وعالميًا؟
- أرى أن الرؤية فتحت مساحة واسعة لإعادة النظر في مفاهيم الهوية والثقافة، وجعلت الحوار حول التراث أكثر حضورًا من أي وقت مضى.
* بما أنكِ مقيمة في ألمانيا منذ فترة طويلة، كيف انعكست هذه الإقامة على دراستك لتاريخ شبه الجزيرة العربية؟
- الإقامة في ألمانيا منحتني مسافة ضرورية لرؤية تاريخ الجزيرة العربية بوضوح أكبر. أحيانًا القرب يجعلنا نرى التفاصيل دون الصورة الكاملة، أما البعد فيُتيح لنا النظر من زاوية مختلفة، أكثر تأملًا واتساعًا.
كما أن العيش في بيئة ثقافية مختلفة جعلني أقدّر خصوصية المكان الذي أنتمي إليه أكثر، وأفهمه ضمن سياق أوسع من التجارب الإنسانية. هذه المسافة لم تُبعِدني عن التاريخ الذي أدرسه، بل قرّبتني منه بطريقة مختلفة: عبر المقارنة، والملاحظة، ومحاولة فهم كيف يرى الآخرون ما نعتبره نحن بديهيًا.
* وأخيرًا كيف استطعتِ توظيف ما توفر لديكِ من مصادر وكتب ومخطوطات للمستشرقين الألمان في هذا المجال؟
- تعاملت مع هذه المصادر بوصفها عدسة تاريخية تساعدني على فهم كيف رأى الآخرون منطقتنا في فترات مختلفة. لا أتعامل معها كمراجع نهائية، بل كنصوص تكشف شيئًا عن السياق الفكري والسياسي الذي كُتبت فيه.