غسان برنجي
لم تعد المملكة العربية السعودية، في ظل رؤية 2030، تُقاس فقط بحجم المشاريع العملاقة التي تُطلقها، بل بقدرتها على تحويل هذه المشاريع إلى واقع تشغيلي مستدام ينعكس أثره على حياة المواطن والمقيم يوميًا. فالمشروعات الكبرى مثل «نيوم»، «البحر الأحمر»، «القدية»، ومطار الملك سلمان الدولي، إضافة إلى استحقاقات تاريخية مثل كأس العالم 2034 وإكسبو 2030، كلها تشكل علامات فارقة في مسيرة الوطن. لكن النجاح لا يُقاس بإطلاق المشروع فقط، بل بقدرته على الاستمرار والتطوير وإنتاج القيمة المضافة على المدى الطويل.
- وزارة الصحة: حققت قفزة نوعية عبر منصة صحتي وخدمات الطب الافتراضي، التي جعلت الرعاية الصحية أقرب إلى المستفيد، وسهّلت الوصول إلى المواعيد والاستشارات عن بُعد. كما بدأت بتشغيل مستشفيات رقمية تعتمد على البيانات والتحليلات في اتخاذ القرار، ما جعل الصحة في السعودية نموذجًا رقميًا متقدمًا.
- وزارة الداخلية: قدّمت عبر أبشر وتوكلنا نموذجًا فريدًا لتحويل المعاملات الحكومية إلى تجربة رقمية شاملة، حيث أصبح المواطن يُنهي معاملاته في دقائق. هذا النجاح تجاوز كونه مشروعًا تقنيًا ليصبح منظومة تشغيلية مستدامة يعتمد عليها ملايين المستفيدين يوميًا.
- وزارة المالية: عبر منصة اعتماد، وضعت معايير جديدة للشفافية وسرعة التعاملات، وربطت القطاع العام بالخاص بطريقة مرنة. المنصة لم تُنشأ كخدمة عابرة، بل كنموذج دائم لإدارة المشتريات والعقود الحكومية، مما جعلها أداة أساسية في تحسين كفاءة الإنفاق الحكومي.
- وزارة التعليم: مع منصة مدرستي، تحولت تجربة التعليم عن بُعد من حل طارئ في الجائحة إلى أداة تشغيلية دائمة تواكب التطور الرقمي في التعليم. اليوم، أصبحت المنصة جزءًا من العملية التعليمية اليومية، تكمل التعليم الحضوري ولا تنافسه.
- وزارة الطاقة: لم يقتصر دورها على مشاريع النفط، بل توسعت في مشاريع الطاقة المتجددة (شمسية ورياح)، مع تطبيق أنظمة رقمية للمتابعة والتحكم الذكي لضمان التشغيل المستمر، بما يتماشى مع التزامات المملكة في مبادرات مثل السعودية الخضراء.
- وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات: تمثَّل العمود الفقري للتحول الرقمي، من نشر شبكات الألياف البصرية إلى تغطية واسعة بالجيل الخامس (5G). كما أطلقت مبادرات الذكاء الاصطناعي ومشاريع الحوسبة السحابية الحكومية، مما جعل المملكة مركزًا إقليميًا للبيانات والتقنية، وأساسًا لا غنى عنه لبقية القطاعات.
هذه النماذج الوزارية توضّح أن الإنجازات لم تعد مبادرات مؤقتة، بل أصبحت منظومات تشغيلية متكاملة تدعم التحول الشامل لرؤية 2030 .
وتجربة المملكة لا تقتصر على التحول داخل الوزارات، بل تمتد إلى المشاريع الوطنية الكبرى:
- مشروع البحر الأحمر: انتقل من فكرة إلى وجهة سياحية حقيقية مع تشغيل مطاره الدولي وافتتاح منتجعاته الأولى، ليصبح أحد المحركات الرئيسة لتنويع الاقتصاد الوطني.
- القدية: تُبنى كمدينة متكاملة للترفيه والرياضة، تمثِّل نقلة نوعية في صناعة السياحة والأنشطة الثقافية، وتعد بأن تكون مركزًا عالميًا للرياضة والفعاليات.
- موسم الرياض: أثبت أن الترفيه يمكن أن يكون صناعة اقتصادية مستدامة تدر عوائد ضخمة وتستقطب الملايين، ليعيد رسم صورة المملكة في العالم.
- مطار الملك سلمان الدولي: بطاقة استيعابية 120 مليون مسافر سنويًا، مشروع سيضع الرياض في قلب الحركة اللوجستية العالمية، بشرط أن يُدار بكفاءة تشغيلية تضاهي أكبر مطارات العالم.
- كأس العالم 2034: حدث غير مسبوق في المنطقة، لكن نجاحه لن يُقاس فقط بقدرة المملكة على الاستضافة، بل بقدرتها على تشغيل البنية التحتية الرياضية والسياحية بعد انتهاء البطولة.
- إكسبو 2030 بالرياض: سيجمع العالم في العاصمة، لكن القيمة الحقيقية ستكمن في تحويل مرافقه إلى محركات اقتصادية وثقافية مستمرة لما بعد الحدث.
الانتقال من عقلية «إنجاز المشروع» إلى عقلية «تشغيله وتطويره» هو التحدي الأهم. وهذا يتطلب:
- كوادر تشغيلية مؤهلة ومتخصصة.
- وحدات مستقلة للاستدامة التشغيلية.
- سياسات تحفّز على قياس الأثر طويل المدى، لا فقط إنجاز المشروع.
إن اقتباس صاحب السمو الملكي ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود:
«نؤمن أن الاستدامة ليست خيارًا، بل ضرورة لضمان مستقبل أفضل لأجيالنا القادمة»، يلخص هذا التحدي، ويضع الاستدامة كجوهر لنجاح رؤية 2030 .
- والقطاع الخاص: يمثِّل ذراعًا أساسيًا في التشغيل، سواء في إدارة البنية التحتية أو في الاستثمار المستمر في القطاعات التقنية والخدمية.
- والمواطن: يعيش هذه التحولات يوميًا، وهو ليس مجرد مستفيد، بل شريك في تحسينها واستدامتها عبر المشاركة والاستخدام المسؤول.
ما ورد في هذه السطور من مشاريع ومنصات وإنجازات ليس إلا عينة محدودة من بحر النجاحات. فالمملكة اليوم تتحرك على جبهات متعددة: من الصحة إلى التعليم، ومن الاتصالات إلى المالية، ومن الطاقة إلى الأمن. كل وزارة تضيف لبنة في مشروع وطني ضخم هدفه النهائي واحد: تحقيق الاستدامة وضمان مستقبل الأجيال القادمة.
إن التحول من المشاريع إلى التشغيل المستدام هو الامتحان الحقيقي لرؤية 2030. فالمشاريع يمكن أن تُطلق بقرار، لكن ضمان استمراريتها يحتاج إلى منظومة متكاملة من الحوكمة، التقنية، التمويل، والشراكة المجتمعية.
إن ما تحقق حتى الآن - من أبشر وتوكلنا واعتماد وصحتي ومدرستي، إلى البحر الأحمر وموسم الرياض - يمثِّل شواهد حيّة على أن المملكة قادرة على الجمع بين الإنجاز والاستمرارية. ومع اقتراب استحقاقات كبرى مثل مطار الملك سلمان الدولي، كأس العالم 2034، وإكسبو 2030، يبقى التحدي قائمًا: كيف نضمن أن تكون هذه الإنجازات مستمرة، متطورة، وراسخة في حياة الوطن والمواطن؟