حمد عبد العزيز الكنتي
تبدأ رحلة الحياة من ظلمة الرحم وتنتهي في ظلمة القبر، وما بين الصرخة الأولى والنفس الأخير يشع الانسان بشمسه الساطعة على هذه الحياة مقدما دوره المُناط به والذي خلق من أجله في جميع أطواره حتى النهاية.
ويبدأ تخلَّق الإنسان في رحم أمه وفق المراحل التي تعرفونها، والتي سرد الله سبحانه وتعالى تفاصيلها في القرآن الكريم، حتى تشعر الأم بشيء ما يؤكده لها الطبيب مبشرها بالحمل، لتنطلق حينها الأفراح مصداقاً لقوله تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. تبدأ حينها مرحلة الثلاثة الأشهر الأولى، وهي مرحلة تثبيت الجنين المعلَّق في هذا الرحم الذي لم يبوح بجميع أسراره بعد، هذا التعلَّق الذي انتصر فيه حيوان منوي في الوصول إلى البويضة، من بين ارقام هائلة لم تستطيع الوصول، أو لم تقدر على الصمود، في علاقة ثنائية وصفها الله سبحانه وتعالى في الآية: {يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}.
ويخيب ظن من اعتقد أن الحمل خاص بالمرأة فقط! فالرجل يحمل معها الهم من لحظة البشارة بحصول الحمل، حتى لحظة التبشير بقدوم المولود، ويظل قلقه المخفي يرافقه دائماً، وقد يظهر على صفحات وجه مهما حاول التماسك، يمثله قول الشاعر:
يا من عرفتُكَ بالتماسُكِ مولعا
حريّةُ الجدرانِ أن تتصدّعا
ومن يعش تجربة الحمل بكل تفاصيلها متابعاً مع شريكة حياته عند الأطباء سيعرف أن الإنسان يبدأ صراعه مع الحياة منذ لحظة تخلَّقه في بطن أمه، فالأشهر الثلاثة الأولى يكون القلق كبيراً من مشكلة إسقاط الجنين، وعلى المرأة اتباع إرشادات الاطباء لتصل بسلام للمرحلة الثانية.
وللمرحلة الثانية التي تبدأ من الشهر الرابع حتى السادس تحدياتها في التغذية والرياضة، والتي تنعكس جميعها على وضع النمو الصحيح للجنين، وتلعب الصحة النفسية عنصراً مهماً في اتمام الرحلة، وعلى الزوج وبقية العائلة تقديم الدعم النفسي الذي يتم فيه تفهم ما تمر به المرأة في هذه المرحلة لتصل سفينة العائلة إلى بر الأمان.
وفي أواخر المرحلة الثانية يتضح غالباً جنس الجنين بين الذكر والأنثى، وفي مطلع المرحلة الثالثة يبدأ نمو الجنين يأخذ مسار أسرع من المراحل السابقة، ويبدو أثر ذلك جلي على مستوى انتفاخ البطن.
وفي هذه المرحلة يكون شكل الجنين أوضح في أشعة السونار التي تتكون خلالها علاقة مبدئية بين الأبوين وبين الجنين، حينما تخفف رؤيته يتأرجح وسط مملكته الخاصة سابحاً في ملكوت الله سبحانه الله الذي يحفظه بعينه التي لا تنام، ويستمعون بلُطف أبوي إلى صوت نبضات قلبه وكأنه تنبض في قلوبهم في فرحة عائلية، تُخفف عنهم عناء الرحلة
وفي المنعطف الأخير أخطر ما يخيف الأبوين هو كلمة الأطباء: (الماء حول الجنين ناقص في المشيمة) والتي بناء عليها قد يضطرون إلى اجراء عملية قيصرية وولادة عاجلة قبل الموعد المناسب، وهذا ما لا يريده الأبوين لمخاطره على الجنين، فتبدأ رحلة السعي إلى زيادة الماء، وما يُصاحب ذلك من قلق زائد عن بقية المراحل السابقة.
لسان حال الأبوين حينها ما هذه (المشيمة الجانحة) المُدلًلة التي تحتاج إلى الكثير من العناية، وتقديم الرعاية لتظل وفية بوعدها باقية على عهدها حتى يأتي أمر الله ويخرج هذا الجنين بشراً سوياً، ويجتمع بأبويه، مُكملاً بذلك شكل الأسرة، مضيفاً لها روح بريئة ونفس جديدة، (فالأطفال ملائكة الرحمن) كما يقال.
وفي الدور المخصص للولادة الطبيعية والقيصرية في المستشفى يجد الإنسان تفسير قوله تعالى {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} عبر سماع أصوات أنين الأمهات وهن ينتظرن شكل نهاية الرحلة، ويأملن ان تكون على ما يرام بدون أي مفاجآت! وما بين حالة الوقوف والجلوس يبدو القلق على وجوه الآباء الذين يعلنون كامل تضامنهم في تلك اللحظة القلقة التي بدأت بفرحة يتمنونها أن تكتمل.
وعند غرفة تخطيط قلب الجنين يتساءل الإنسان كيف لقلب أن يتم التعامل معه في جسد آخر! وسط مشهد مليء بالتأملات التي ترى فيها عيون الحوامل تحمل الكثير من الأسئلة حتى ولو كانت تنظر إلى زوجها، الذي حتى ولو وقف على مسافة منها إلا أن قلبه أقرب لها من حبل الوريد، مرسلاً لها كل الدعوات والأمنيات بتجاوز المرحلة بسلام.
هي مساحة يخيم عليها الذهول، فصوت من هنا لامرأة أثناء الولادة الطبيعية، وصوت أنين هناك لأخرى على وشك الولادة يهز القلب، وصوت صرخات الرضع من الحضانة وهم يبدؤون أيامهم الأولى في الحياة، وصوت طبيبة تُخاطب ممرضة، وصوت أب يطلب من الموظف أوراق استخراج شهادة الميلاد، بينما تمر ممرضة تدفع عربة فيها جنين قادم للتو من غرفة العمليات أو خارج من الحضانة إلى حضن أبويه، وأثناء ذلك تأتي ممرضة لتبشر أحد الحضور بقدوم مولوده، فيتسابق الجميع إلى تقديم المباركة له، وسط أجواء من الفرح المُتعطش الكل لها آنذاك.
والمشهد بشكل عام يحكي قصة (أول يوم في الحياة)، تلك اللحظة التي يولد فيها الأبوان مرة ثالثة في حياتهم، وهم يرون فلذة كبدهم بشراً سوياً بين أيديهم، فتُنسيهم تلك اللحظة الهانئة جميع اللحظات الصعبة التي مروا بها طوال الأشهر التسعة الماضية، في تماهي عظيم مع هذه الحياة التي لكي تتذوق شهد عسلها لابد أن تتعرض للسع نحلها.