علي حسن حسون
في معظم الأوقات، يكتشف القارئ النهم أسرار الكتابات من مجرد كلمات متناثرة هنا وهناك، كمن يقرأ بين السطور ويقيس نبض الكاتب من شذرات أفكاره، وفي أحد الأيام، صادفت أحد هؤلاء الهواة، قارئ لا يكتفي بالمرور السطحي على النصوص، بل يغوص فيها بعين ناقدة ولسان ساخر، أحياناً يبتسم للعبارات وأحياناً يرفع حاجبه عن بعض المقالات المنشورة .
فأخذت أنصت إليه وهو مستطرد في حديثه لي قائلاً: (علاقتي مع القراءة لا أتذكر كيف ومتى بدأت بالضبط، لكنها بلا شك أكثر من خمسة عقود مضت، أجول وأحوم حول الكتب، أغلق ذلك وأقف أمام آخر، أتغلغل في معاني الكلمات، أبحث عن سرديتها ومعناها وأصلها وفي أي قرن ذُكرت، حفظت المعلقات الشعرية وأقوال علماء اللغة العربية، ومن أسهم وأبلغ الأثر الذين أثروا الساحة العربية بشتى أنواع الأدب، كصاحب نهج البلاغة وصاحبه الدؤلي، وسيبويه، وابن مالك، وصولاً إلى صاحب كتاب الكشاف محمود الزمخشري والجاحظ وغيرهم، حيث قضيت سنين طوالاً في البحث والتنقيب وقراءة التاريخ وكتب الفلسفة وعلم الجبر).
ثم قاطعته سائلاً إياه: أما من كاتبٍ في عصرنا الحالي قد أعجبتك كتاباته وراق لك فكره وطرحه؟ أو أنك توقفت عند تلك الحقب، ولم تحدث مقتنياتك من كتب ومطبوعات، أو لم تعد ذائقتك تقوى على قراءة كتابات الأدباء الحاليين ولم تهرع إلى المكتبات لترى ما هو جديد؟
أجاب: أتظن عندما أخبرتك بالسابقين أنني استندت إلى كتب الماضي ولم أجدد وأوسع مداركي؟ بالعكس، من قرأ لطه حسين يدرك أنه امتداد لذلك العصر الذهبي وقد أثرى ساحة الأدب بكل جدارة، وهناك العديد من الكتاب من هم على شاكلته، ساهموا ويسهمون في الارتقاء بفنون الأدب والسير على نهج العلماء السابقين.
عندها أردت منه أن يصف حالة المقالات التي تنشر اليوم في الصحف اليومية، وأن يقيم مدى عمقها، وهل تعبر عن حالة الثقافة الحالية، أو أنها تسير على خطى ثابتة ومنهاج مطمئن للأجيال القادمة.
هنا أخذته بعض التنهيدات، وأغمض عينيه لوهلة، ثم قال: إن أردت وصفاً دقيقاً، (فليس كل ما يُكتب يدعى مقالاً) وهذا لا يعني أنه لا توجد أقلام تسير نحو الإبداع في عالم الأدب، وترسم لوحات غنية بالفكر النَّير والآفاق الواسعة، فالساحة تملؤها قامات شامخة، وهذا ما جعل مني باحثاً عنهم في صفحات الجرايد وأراقب مقالاتهم أسبوعياً.
أما وصفي بأنه ليس كل ما يُكتب يدعى مقالاً، فذلك لأنني اطلعت على عدد كبير من المقالات، ولم أجد فيها ولو جزءاً يسيراً من مقومات المقال الصحفي الحقيقية. يبدو أن البعض لم يراجع معاجم اللغة وصنوفها، ولم يلجأ إلى علم النحو، ولو اجتهد في مطالعة كتب القدماء من الأدباء والمفكرين لوجد ضالته بسهولة.
ومع ذلك، حين أطلع على بعض المقالات، يصيبني الدوار؛ فلا يعقل أن تتحول الثرثرة بين الأقران إلى مقال يُنشر، أو أن تُؤخذ مقتطفات من عدة مقالات وتُجمع مع بعضها البعض، ثم تُنسب لنفسك وتتجرأ على القول إنها مقال. هذا ما يُعبّر عنه المثل الشعبي: «طبطب وليِس يطلع كويس». بالطبع لا، فالكاتب القارئ تظهر سماته فيما يسطره، ويبرز أثر ما يدرسه في كل كلمة يكتبها. فالكلمة مسؤولية، وليست مجرد استعراض أو تزيين للسطحيات.. هنا حاولت جاهداً تحويل مجرى الحديث بعيداً عن المقالات وصناعها، قبل أن نقع في المحظور، خصوصاً وقد بدأت أعراض الغضب تلوح على وجنته، فقلت له ممازحاً: لعلك ممن يسكن الأبراج العاجية، انزل قليلاً، كن متواضعاً ولا تتجهم، وكن حليماً على تلك الأقلام، فهم يحاولون أن يصنعوا أثراً.
وبين هذا وذاك، يظل القارئ النهم في رحلة شاقة، يسعى لمنح الكلمة وزنها ومعناها الحقيقي، وسط عالم يفضل الترندات والعبارات الرنانة والهشة على العمق، والسطحيات على التأمل، تاركاً لك عزيزي القارئ مهمة إنقاذ ما تبقى من صدق الكلمة وروحها.