غسان برنجي
لم يعد سؤال الوقت مقابل الجودة مجرد نقاش أكاديمي في أروقة كليات الإدارة، بل أصبح تحديًا عمليًا يواجه الحكومات والشركات يوميًا. ومع تسارع التطورات الاقتصادية والتقنية، تزداد الضغوط لإنجاز المشاريع في وقت قياسي، مما يثير القلق حول احتمالية التضحية بمعايير الجودة. وفي المملكة العربية السعودية، التي تعيش مرحلة تاريخية من التحولات الكبرى، يبدو هذا السؤال أكثر إلحاحًا، لكنه يأخذ بُعدًا مختلفًا.
الاقتصاد العالمي اليوم يقوم على السرعة في الإنجاز. فالسوق لا ينتظر، والتقنيات تتغير بوتيرة متلاحقة، والمستثمرون يبحثون عن نتائج سريعة. هذه الحقيقة جعلت من إدارة الوقت عنصرًا حاسمًا في نجاح المشاريع. لكن الوجه الآخر لهذه السرعة هو خطر الانزلاق نحو منطق الكم على حساب الكيف.
وفي بعض التجارب العالمية، أدت الرغبة في التسريع إلى مشكلات لاحقة في التشغيل أو إلى تكاليف مضاعفة للصيانة. هنا يبرز السؤال: كيف نضمن ألا يكون «الإنجاز السريع» مجرد منجز ورقي يتداعى عند أول اختبار عملي؟
الجودة ليست ترفًا إداريًا ولا خيارًا إضافيًا، بل هي الضمان الوحيد لاستدامة أي مشروع من المشاريع التي تُبنى على أساس متين من الجودة تصبح أصولًا اقتصادية واجتماعية تعيش لعقود، بينما المشاريع التي تتنازل عن الجودة قد تُنجز بسرعة، لكنها تتحول إلى عبء على الموازنات العامة أو على ثقة المجتمع.
فالجودة تعني:
- وضوح المعايير منذ البداية.
- أنظمة مراقبة دقيقة في التنفيذ.
- تشغيل مستدام لا ينهار مع أول تحدٍ.
وفي خضم هذا الجدل العالمي، تقدم المملكة العربية السعودية معادلة خاصة بها: فهي لا تركّز فقط على السرعة أو الجودة منفردتين، بل تعمل على دمج الاثنين في معادلة متوازنة، تجعل من كل مشروع قصة نجاح حقيقية.
وضمن رؤية السعودية 2030 ، جاءت المشاريع الكبرى مثل نيوم والقدية ومشروع البحر الأحمر، لتؤكد أن المملكة قادرة على تسريع الإنجاز دون التفريط بالجودة. لكن المملكة أضافت بُعدًا جديدًا، حيث لم تعد المشاريع مجرد أدوات اقتصادية، بل رموز حضارية تعبر عن هوية جديدة وطموح وطني غير مسبوق.
لنأخذ مثال التحول الرقمي. خلال سنوات قليلة، انتقلت المملكة من الاعتماد على الخدمات التقليدية إلى بناء منظومات رقمية متكاملة تشمل الصحة والتعليم والعدل والمالية. منصات مثل أبشر وتوكلنا ومنصة اعتماد أصبحت شواهد يومية على أن السرعة ممكنة دون خسارة الجودة، بل إن الجودة الرقمية هنا تعني سهولة الوصول، الموثوقية، والقدرة على التوسع المستقبلي.
وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات، على سبيل المثال، لم تكتفِ بتوسيع البنية التحتية للاتصالات، بل عملت على تطوير بيئة رقمية جاذبة للاستثمارات، وفتحت المجال لريادة الأعمال التقنية، مما جعل المملكة من أسرع الدول نموًا في قطاع التقنية. وهذه أمثلة من المشاريع القائمة:
- مشروع مطار الملك سلمان الدولي في الرياض: لا يُنظر إليه كمجرد مطار، بل كبوابة اقتصادية وثقافية تعكس مكانة المملكة وتستوعب النمو المتوقع لعقود مقبلة.
- ملف استضافة كأس العالم 2034: مشروع يتجاوز الرياضة إلى بناء منظومة متكاملة من البنية التحتية والخدمات التي تثبت قدرة المملكة على إدارة حدث عالمي بمعايير عالية من السرعة والجودة.
- معرض إكسبو 2030 في الرياض: مناسبة ستضع المملكة في قلب المشهد الدولي، وتجعلها مركزًا للابتكار والحوار الحضاري.
هذه المشاريع لا تمثل استثناءً، بل هي جزء من سلسلة نجاحات متواصلة في مجالات الطاقة المتجددة، الصناعات العسكرية، النقل العام، والسياحة، لا يسع مقال واحد لتغطيتها جميعًا.
غير أن الامتحان الحقيقي لا يكمن في إنجاز المشاريع بحد ذاتها، بل في تشغيلها واستدامتها. السرعة قد تجذب الانتباه في مرحلة التدشين، لكن الجودة هي التي تضمن استمرار العوائد لسنوات.
من هنا، ركزت الوزارات السعودية على بناء نماذج تشغيلية فعّالة:
- وزارة الطاقة في إدارة مشاريع الطاقة المتجددة وضمان تشغيلها طويلًا.
- وزارة النقل والخدمات اللوجستية في تحويل مشاريع البنية التحتية إلى شبكات تشغيلية متكاملة.
- وزارة الاتصالات في استدامة الأنظمة الرقمية وحمايتها بالحوكمة والأمن السيبراني.
والمملكة اليوم تقدم نموذجًا خاصًا بها في إدارة المشاريع؛ فهي لا تسعى فقط إلى سرعة الإنجاز ولا تكتفي بتحقيق الجودة، بل تصوغ معادلة متوازنة تجعل من كل مشروع شاهدًا على رؤية حضارية عميقة.
المشاريع الكبرى مثل نيوم والقدية ومشروع مطار الرياض الجديد، إضافة إلى مشاريع التحول الرقمي والخدمات الحكومية، تثبت أن السعودية لا تلهث خلف الزمن، بل تضع إيقاعها الخاص وتفرضه على العالم.
هذه المشاريع ليست مجرد إنجازات هندسية أو تقنية، بل رسائل حضارية تُظهر أن النهضة السعودية المعاصرة ليست سباقًا وقتيًا، بل مسارًا مستدامًا يرسم ملامح المستقبل.
السؤال «هل الجودة ضحية للإنجاز السريع؟» يأخذ في السعودية إجابة مختلفة. فالمشاريع التي نراها تتحقق اليوم تقول بوضوح: السرعة ممكنة، والجودة ممكنة، والاستدامة هي الهدف النهائي.
المملكة لا تعيش سباقًا مع الزمن فقط، بل تكتب مع الزمن قصة جديدة تُظهر أن الجمع بين السرعة والجودة ليس حلمًا بعيدًا، بل واقعًا يتجسد كل يوم على أرضها.