هدى بنت فهد المعجل
يقول ميشيل دي مونتيني في رائعته المقالات الكتاب الأول: «عقولنا لا تتحرك إلا بالعدوى»، عبارة تبدو لأول وهلة قاسية، لكنها حين تُسبر بعمق تكشف جوهرًا دقيقًا في طبيعة الإنسان الفكرية والنفسية.
فالعقل البشري، كما يرى مونتيني، ليس كيانًا مستقلاً يعيش في عزلة تامة، بل هو كائن اجتماعي يتنفس من أفكار الآخرين، يتغذى منها، ويعيد إنتاجها في صيغة جديدة. نحن نتصوّر أنفسنا أحرارًا في تفكيرنا، لكن الحقيقة أن كثيرًا من أفكارنا ليست وليدة عقلنا الفردي، بل انعكاسات غير مرئية لما التقطناه من بيئتنا الثقافية والنفسية.
العدوى الفكرية ليست بالضرورة مذمومة، فهي أصل كل معرفة مشتركة وكل تطور إنساني. لو لم تنتقل الفكرة من عقلٍ إلى آخر، لبقي الإنسان في عزلة فكرية قاحلة. العدوى هنا تحمل في طيّاتها بذور الإلهام والتأمل، كما تحمل خطر التكرار الأعمى والانسياق وراء السائد.
وما يميز العقول الناضجة عن غيرها هو قدرتها على تحويل العدوى إلى وعي، أي أن تستقبل الفكرة لا لتستسلم لها، بل لتفككها، وتنقّيها، ثم تولد منها شيئًا يخصها هي وحدها.
في البعد النفسي، العدوى لا تصيب الفكر وحده، بل تمتد إلى العاطفة والسلوك.
نغضب لأن الآخرين غاضبون، ونفرح بعدوى الفرح، ونرتبك حين نرى الوجوه المرتبكة. نحن كائنات متأثرة ومنفعلة، والعزلة الكاملة عن «عدوى الآخرين» ضربٌ من الوهم. إن النفس، مهما ادعت استقلالها تبقى مشدودة بخيوط غير مرئية إلى محيطها الاجتماعي. لذلك، ليست العدوى ضعفًا، بل دليل على تشابكنا الإنساني العميق، وعلى أن وعينا لا يُصاغ في الفراغ بل في صدى العقول المحيطة بنا.
أما في البعد الفلسفي، فإن فكرة مونتيني تطرح سؤالًا وجوديًا: هل يمكن التفكير حقًا من غير الآخر؟
يبدو أن الذات لا تكتمل إلا بمرآة الآخر، ولا تتفلسف إلا حين تتصادم أو تتحاور أو تتفاعل. الفكر إذًا ليس ملكية خاصة، بل سيرورة مستمرة من الأخذ والعطاء، من العدوى والتمحيص، من الذوبان في الجمع ثم العودة إلى الفرد.
إن الوعي المتقدم لا يهرب من العدوى، بل يختارها بعناية. يتقن فنّ الانتقاء بين ما يثريه وما يفسده، بين ما يوقظ فيه السؤال وما يخدره باليقين. فالعقل الحرّ ليس من يعيش في منأى عن التأثير، بل من يعي أن العدوى حتمية، ويحوّلها إلى مادة تفكير لا إلى قيود. وهنا تحديدًا تتجلى حكمة مونتيني: العقل الذي يعرف مصدر عدواه، هو وحده القادر على أن يكون حرًّا.