عبدالوهاب الفايز
في منطقة جازان، وبالذات في جزيرة فرسان، حين تتواصل الإنجازات التنموية التي تؤثر إيجابياً على حياة الناس، يصبح التقدير والشكر واجبين لكل من سعى فيها.
وفي زيارات قريبة للمنطقة سعدنا برؤية الجهود المبذولة لخدمة مصالح الدولة والمجتمع في القطاعين العام والخاص، وحتى الخيري. طبعاً هذا لا يعني أن احتياجات الناس تتحقق كاملة، فهناك احتياجات قائمة نرجو أن يقابلها مشاريع قادمة، تسد الاحتياج وتحقق تطلعات السكان.
من الأمور التي عززت الصورة الذهنية الإيجابية وأتاحت الفرصة لكثيرين لزيارة فرسان والتعرف عليها، من داخل المملكة ومن خارجها، نجدها في المشاريع التي نفذتها الحكومة عبر منظومة البيئة.
لقد حظيت فرسان باهتمام الحكومة واهتمام المنظمات الدولية مثل اليونسكو، وقبل عامين سعدت بحضور الاحتفاء (بتسجيل محمية جزر فرسان في برنامج الإنسان والمحيط الحيوي في اليونسكو). وفرسان تستحق هذا الاهتمام، فالجزيرة تعد تحفةٍ بيئية وبحرية وتتميز بثرواتها الطبيعية وعمقها الثقافي والتاريخي. فهي أرخبيل يضم أكثر من 170 جزيرة، أكبرها فرسان الكبير والسقيد، وتغطي مساحةً تقارب 5400 كم، وهي إحدى أغنى مناطق المملكة تنوعًا أحيائيًا،وهذا التنوع يتم تعزيزه بمشاريع الحياة الفطرية، ففي (23 أكتوبر الماضي) أطلق امير المنطقة الأمير محمد بن عبد العزيز عددًا من ظباء الإدمي الفرساني النادرة.
استمرار هذه المشاريع يؤكد أن البيئة لم تعد في الوعي السعودي مجرد فضاءٍ يستجدي الحماية، بل مورد للتنمية وفرصة لتنمية الاقتصاد المحلي يتسابق لتحقيقها المواطن قبل المسؤول.
وحدث الإطلاق هذا ليس احتفاءً عابرًا بالكائنات الفطرية، بل جزء من برنامجٍ وطنيٍّ متكاملٍ ينفّذه (المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية) لإكثار وإعادة توطين الأنواع المهددة بالانقراض، ضمن استراتيجيته لتحويل المحميات الطبيعية إلى ممكنات للتنمية المتوازنة حتى تدعم الاقتصاد المحلي، وتولد (فرص العمل والتجارة) للسكان، وتُحافظ على استدامة البيئة.
فرسان اليوم تمثل نموذجًا حيًا لهذا التحول؛ فبيئتها البحرية والبرية تحتوي أكثر من 188 نوعًا من النباتات، وتحتضن قطعان الظبي الفرساني، وأسراب الطيور المهاجرة كالعقاب النساري، والبجع الوردي الظهر، والنورس، والصقر الأسحم؛ إلى جانب الدلافين والحيتان والأطوم والسلاحف البحرية.
هذه المنظومة الطبيعية جعلت الجزيرة تحصل على اعترافٍ دوليٍّ واسعٍ، حيث أُدرجت عام 2021م كأول محمية للمحيط الحيوي في المملكة ضمن شبكة اليونسكو، ورُشحت لاحقًا لـ القائمة الخضراء للاتحاد الدولي لصون الطبيعة (IUCN)، كما أُدرجت ضمن القائمة التمهيدية للتراث العالمي، وقريبا - بحول الله - نحتفي بدخولها ضمن اتفاقية (رامسار)، كأول موقع سعودي للأراضي الرطبة ذات الأهمية الدولية.
هذه الاعترافات العالمية - السابقة والقادمة - لم تأتِ صدفة، بل كانت ثمرةً لجهودٍ وطنيةٍ متكاملةٍ تبذلها مؤسسات الدولة وفي مقدمتها المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية، الذي تبنّى منذ تأسيسه منهجيةً علميةً تجمع بين الحماية، وتفعيل التنمية المكانية، والإدارة البيئية المحترفة للمحميات. والإدارة المحترفة هي التي أدخلت (محمية الوعول) قبل عامين في القائمة الخضراء التابعة للاتحاد الدولي لصون الطبيعة.
في فرسان نفذت وزارة البيئة برامج لتأهيل البيئات الساحلية والبحرية، ومكافحة الأنواع الغازية، وحماية الطيور المهاجرة، وتنظيم الصيد، إلى جانب حملات للتوعية والتثقيف البيئي. والنتيجة أن تحولت فرسان إلى نموذج سعوديٍّ رائدٍ في الاقتصاد البيئي، حيث أصبحت البيئة عنصرًا منتجًا في الاقتصاد الاجتماعي لا مجرد كيانٍ محمي.
وأبرز المكاسب الاقتصادية تحققت في قطاع السياحة. آخر الأرقام المحدثة المتاحة تشير إلى وصول الإنفاق السياحي في منطقة جازان وحدها إلى 2.8 مليار ريال.
وفي ضوء هذا الزخم الوطني، فإن جزر فرسان، التي تستقبل أكثر من 150 ألف زائر سنويًا، تبدو مؤهلة لتكون أحد أبرز المقاصد البيئية والسياحية في البحر الأحمر؛ فالمقومات الطبيعية والثقافية تؤهلها لاستقطاب الاستثمارات النوعية في السياحة البيئية والفنون الطبيعية. والسياحة سوف تنمو إذا تحقق (إنشاء مطار الجزيرة)، ونرجو ألاَّ يتأخر، وكذلك المضي في تعزيز الطاقة الاستيعابية في الميناء.
ومع هذا التوجه، سوف تكون برامج البيئية في فرسان داعم للتنمية في الجزيرة، والمشاريع البيئية أفضل ألية لتعريف علاقة الإنسان بمحيطه وبمتطلبات حماية بيئته، فهذه تتحقق عبر مفاهيم المشاركة والتكامل. فالصياد الذي كان يعتمد على صيده اليومي أصبح اليوم جزءًا من منظومة الصيد المستدام، والفنان والمصور يجدان في الطبيعة مصدرًا للإبداع، والسائح المحلي أو الأجنبي يجد في الجزيرة تجربة بيئية وثقافية متكاملة، تجمع بين الجمال الطبيعي والعمق الإنساني لسكان فرسان. ولا تتوقف القيمة المضافة عند الجانب السياحي، فالبحر الأحمر، الذي يحتضن فرسان، يُنتج ما يقارب 37 % من إجمالي الصيد البحري الوطني، فيما تجاوز الإنتاج السمكي والاستزراع المائي في المملكة 140 ألف طن في عام 2023 بحسب بيانات هيئة الإحصاء. هذه الأرقام تبرز الإمكانات الاقتصادية الهائلة التي يمكن أن تولّدها مشاريع الصيد المنظم والاستثمار في (الاقتصاد الأزرق)، وهو قطاع يتنامى عالميًا ويجد في جزر فرسان بيئة مثالية لتطبيقه.
إن الجمع بين العمق البيئي والعمق الثقافي والفني في فرسان يوجد معادلةً جديدةً في مفهوم التنمية: تنمية تحافظ على البيئة وتنمو معها، ولا تُقصي الإنسان، بل تجعله شريكًا في صونها وتنميتها. فالمشروعات البيئية ليست مجرد حماية للكائنات أو زراعة للأشجار، بل أصبحت تمثل بنية تحتية للتنمية المستدامة تُمكّن المجتمع المحلي، وتفتح مجالات عملٍ جديدة في الإرشاد البيئي والخدمات السياحية والإنتاج الثقافي.. وغيرها.
البيئة تزدهر حين يجد الإنسان نفسه فيها، مشاركا في صيانتها ومستمتعا فيها، وهذا ما تحقق في فرسان. فقد أسهم جهد القطاع غير الربحي والتعاوني، وكذلك وعي السكان وممارساتهم الصديقة للطبيعة في نجاح برامج البيئة. إن الانسجام بين الطبيعة وأهلها هو الذي يجعل من الجزر نموذجًا سعوديا عالميًا في تكامل الإنسان مع المكان. فالمحافظة على غابات المانغروف، والقضاء على الصيد الجائر للأسماك، والتعامل الواعي مع النفايات البحرية، كل هذه الممارسات المحلية تُنتج ايضاً أثرًا عالميًا في الاستدامة.
وهكذا، لا تمثل فرسان اليوم مجرد محمية طبيعية أو موقعًا سياحيًا واعدًا، بل (قصة وطنية) متجددة تعبّر عن التحول السعودي في فهم العلاقة بين البيئة والتنمية. فمن بين الموج والمرجان والظباء، تولد حكاية جديدة لاقتصادٍ مكانيٍّ مستدام، يربط بين حماية الطبيعة وتنويع الاقتصاد وازدهار الإنسان.
جزر فرسان تُثبت أن البيئة حين تنظم وتُدار على أسس علميه ومهنية، تتحول من طبيعة جامدة إلى طاقةٍ اقتصاديةٍ ومعرفيةٍ متجددة، ومن موقعٍ جغرافي إلى منجز ومؤشر وطنيٍّ للوعي.
من هم المشاريع التي خدمت الانسان والبيئة في فرسان كان تشغيل أول محطة للطاقة الشمسية بالمملكة عام 2011، بطاقة 864 ألف كيلوات ساعة سنويا، وتوفر نقل ما يوازي (28) ألف برميل من الديزل إلى الجزيرة.
وأخيراً نقول: الأمر الإيجابي الذي أوجده الاهتمام بالبيئة، هو مساهمة البرامج والمشاريع الحكومية في (تعزيز وتطوير الصورة الذهنية الإيجابية عن جازان وجزر فرسان)، وهذا ساهم في تغذية الصورة الحضارية الإيجابية عن بلادنا، وهذا هو الذي يجعلنا نحتفي دوما بإنجازات الشعب السعودي لحماية بيئة بلاده، حيث موئل أجداده وأحفاده.