محمد الخيبري
في زمن الرؤية والطموح الذي تعيشه المملكة العربية السعودية، حيث يتجه الدعم الحكومي غير المحدود لتطوير قطاعات الرياضة وجعلها جزءاً أصيلاً من الاقتصاد والمكانة العالمية، تقف كرة القدم اللعبة الشعبية الأولى أمام تناقض صارخ ومحبط..
فمن جهة، استثمارات ضخمة وضعت الدوري السعودي للمحترفين في صدارة المشهد العالمي وجذبت نجوماً من الصف الأول، ومن جهة أخرى، هناك إجماع شعبي غير مسبوق على أن عمل الاتحاد السعودي لكرة القدم لا يوازي حجم هذا الدعم ولا يتوافق مع أهداف الرؤية الطموحة 2030 التي لا تقبل بالمتوسط.. إن المشكلة لم تعد محصورة في الأداء الفني أو الإداري البحت، بل تجاوزت ذلك لتصل إلى حالة من الغضب وعدم الرضا العام في الشارع الرياضي.
الدليل الأقوى هو أن الاتحاد لم ينجح في استغلال الجماهيرية والشعبية الواسعة لكرة القدم في المنطقة، بدليل أن معظم الشارع السعودي غير راضٍ عن عمله، بل إن الأغلبية الصامتة التي هي وقود اللعبة، تطالب اليوم صراحة برحيله أو حله من قبل وزير الرياضة ورئيس اللجنة الأولمبية السعودية، كدليل قاطع على أن الأداء وصل لمستوى بات يهدد سمعة المنتج الرياضي الوطني.
لقد أضاع الاتحاد السعودي لكرة القدم على نفسه وعلى الكرة السعودية فرصة تاريخية.. فبدلاً من استغلال القوة الشرائية الهائلة وقدرة الدوري على جذب الاهتمام، ثبت أنه لم يستثمر قوة الدوري المحترف الهائلة ولم يستغل هذا الزخم الإعلامي والجماهيري العرضي الذي أحدثته الصفقات العالمية.. الانتشار الواسع وارتفاع نسبة المشاهدة على مستوى العالم كان يجب أن يقابله هيكلة إدارية وتسويقية ولوائح مستقرة، تضمن انسيابية العمل وجاذبيته..
ولكن بدلاً من ذلك، نرى أن الاتحاد في كل موسم يقدم لنا عمل دون المأمول، تشتعل معه القضايا والخلافات والاحتجاجات مع بداية المنافسات.
الفشل هنا هو في إدارة المنتج نفسه، حيث تكررت الأخطاء الإدارية وغابت الشفافية في التعامل مع الأزمات، مما أفقد الدوري جزءاً كبيراً من مصداقيته وقيمته كمنتج احترافي عالمي. تكاد تكون الانتقادات في كل موسم موجهة إلى اللجان الحيوية في الاتحاد، وفي مقدمتها لجنة الحكام، ولجنة المسابقات، ولجنة الاحتراف، واللجان القانونية.. إن ما يزيد من حدة النقد هو أن هذه اللجان لم تستوعب بعد توسع ثقافة المشجعين والمتابعين وأن الجمهور أصبح أكثر وعياً باللوائح والقوانين الدولية.
الجمهور اليوم لا يتقبل الأخطاء على أنها تقدير حكم، فالصورة متاحة والمقارنات مفتوحة مع الدوريات الكبرى، وخصوصاً أن المعلومة الرياضية باتت من السهولة الحصول عليها.. هذا الواقع يفرض على اللجان أعلى معايير الشفافية والاحترافية، لكن هفواتها المستمرة تؤكد أنها فشلت في مواكبة تطور وعي المتلقي، مما يجعل قراراتها موضع شك ونقد متواصل، ويعزِّز الشعور بأن هناك تقصيراً متراكماً في العمل الإداري والقانوني.
تظل مشكلة التحكيم هي المعضلة الأهم والأكثر إزعاجاً في المشهد الرياضي السعودي.. لقد أثبت الاتحاد أنه عاجز تماماً عن معالجة هذه المشكلة الأزلية غير القابلة للتطوير، وتفاقمت هذه الأزمة بسبب قرارات إدارية غير مدروسة.. فبدلاً من تخصيص الموارد لبرامج تطويرية حقيقية ومكثفة لرفع مستوى الحكم المحلي ليصبح جديراً بقيادة المباريات المهمة، لجأ الاتحاد إلى قرار وصفه البعض بالمتعجل والمتهور.. وهو رفع قيمة تكاليف طواقم الحكام الأجنبية إلى مبالغ فلكية تقارب نصف مليون ريال سعودي لكل مباراة.. هذا القرار لم يأتِ من باب القوة والثقة في الحكم المحلي، بل جاء كعبء مالي مباشر على الأندية، خاصة تلك المتوسطة.
وبهذا، أصبحت هذه الأندية مُجبرة على التعامل مع الأخطاء الفادحة والمستمرة للحكم المحلي، لعدم قدرتها على تحمّل التكلفة الباهظة للاستعانة بالحكم الأجنبي بشكل مستمر. الاتحاد بذلك يكون قد حمّل الأندية تبعات فشله في تطوير الكادر التحكيمي الوطني.. هذه الإخفاقات لا تتوقف، بل إنها مستمرة حتى في ظل وجود الحكم الأجنبي في مباريات القمة، مما يعني أن الخلل أعمق من مجرد أسماء، بل هو خلل في آليات التقييم والتأهيل والمحاسبة.
وقد شكل مستوى التحكيم الضعيف ردود أفعال واسعة تعدت حدود الوطن، جاعلاً من مبارياتنا «موضع تندر وسخرية» نظراً للهفوات التحكيمية المتكررة والمفضوحة في زمن تقنية الفيديو (VAR)، وهو ما يشوِّه سمعة دورينا المحترف على الصعيد الدولي.
كما أن التركيز الغالب لعمل الاتحاد انصب على «تدعيم الأندية» بالعنصر الأجنبي بشكل مبالغ فيه أحياناً، دون وضع إستراتيجية موازية لتطوير اللاعب المحلي وإيجاد آليات تضمن مشاركته الفعَّالة.. هذا التوجه أدى بالضرورة إلى إضعاف مشاركات اللاعب المحلي وتقليص فرصه في المنافسة، مما انعكس سلباً على قوة المنتخبات الوطنية. إن هذا التضارب في الأولويات، حيث يتم ضخ المليارات دون ضمان مستقبل لـ «المنتج الوطني» الأساسي، يهدد استدامة التطور على المدى الطويل، ويتعارض مع أحد أهم أهداف الرؤية وهو بناء كوادر وطنية قادرة على المنافسة عالمياً.
إن كرة القدم السعودية تقف اليوم على مفترق طرق حاسم، إما أن تنهض هياكلها الإدارية والتحكيمية والقانونية لمستوى التطلعات الهائلة التي رسمتها رؤية المملكة 2030، أو أن تستمر في تآكل قيمتها تحت وطأة الأداء الإداري والتحكيمي المتواضع. لقد أوضح الاتحاد السعودي لكرة القدم بلجانه المتعددة في كل موسم أنه عاجز عن معالجة المشكلات الأزلية وفقدان ثقة الجمهور. فما فائدة استثمار مئات الملايين وجذب نجوم العالم إذا كانت المنظومة الإدارية تُفقد المشاهد السعودي ثقته في نزاهة المنافسة وشفافية العمل؟
إن استمرار هذا العمل، الذي لم يصل لرضا الأغلبية ويواجه دعوات صريحة للرحيل، هو إهدار للطاقات والدعم الحكومي الذي لا يقبل بالمتوسط. المطلوب الآن ليس مجرد تعديلات سطحية، بل مراجعة شاملة وصادقة تعيد بناء الاتحاد بآليات شفافة ومحترفة، تستلهم من قوة الرؤية وتستجيب لنداء الشارع الرياضي الذي يطالب بأن يكون عمل الاتحاد على مستوى عظمة الدعم وكبرياء الوطن.