مرفت بخاري
لم تكن الكتابة عن الراحلين يومًا سهلة، فهي استدعاء لضياءٍ مضى ليبقى أثره ولحكاياتٍ زرعت فينا الإلهام قبل أن تغيب وفي وطنٍ زاخر بالعطاء يطلّ علينا بين الحين والآخر اسمٌ رحل جسدًا وبقي فكرًا يشهد أن من يعمل لله لا يغيب صوته واليوم أقف أمام واحدة من تلك الأسماء النقية التي جعلت من العلم رسالة ومن الدعوة سلوكًا ومن الحياة ميدانًا للعطاء الصادق إنها الداعية الفاضلة فاطمة نصيف -رحمها الله- التي جمعت بين العقل النيّر والقلب الرحيم فكانت شعاع علمٍ ونور دعوة ومدرسةً تمشي على الأرض بالسكينة والنور.
ولدت في جدة عام أربعة وأربعين وتسعمئة وألف في بيتٍ يفيض علمًا ودينًا بيتٍ تتنفس جدرانه الذكر وتتناثر فيه كتب الآباء وأوراق الأجداد فوالدتها السيدة صديقة أول من فتحت باب النور لبنات الغرب السعودي لتتعلم الفتاة كما يتعلم الفتى ووالدها التقي العالم الذي أسس أول مطبعة للكتب الإسلامية في بومباي وجَدها الشيخ محمد نصيف رجل العلم والسياسة والعطاء الذي كان بيته مأوى العلماء وضيوف الفكر والدعوة ومن مكتبته العتيقة في جدة خرجت أجيال من العلماء والباحثين فكانت فاطمة وريثة مجدٍ علميٍ لا يزول وميراث إيمانٍ لا يخبو.
نشأت بين الكتب كما تنشأ الزهرة بين الندى قارئة متأملة ترافق والدتها في دروب الدعوة منذ نعومة أظفارها فتتعلم أن الإيمان ليس قولًا يُردد، بل سلوك يُعاش وأن الدعوة ليست منبرًا يعلو، بل خلقٌ يتجسد فكانت تسير على خُطى والدتها كنسمة في مجلس علم وكشعاعٍ في دربٍ طويل حتى غدت بمرور الأيام امرأةً تحمل في قلبها علمًا وفي فكرها نورًا وفي عملها صدقًا.
درست التاريخ بالرياض، لكنها لم تتوقف عند حدود الزمن، بل أرادت أن تغوص في جوهر الدين فانتقلت إلى جامعة أم القرى لتنهل من معين الشريعة فحصلت على الماجستير، ثم الدكتوراه في الكتاب والسنة، ثم انطلقت في رحلتها التعليمية لتكون مشرفة على قسم الطالبات في جامعة الملك عبدالعزيز تزرع في نفوس الطالبات يقينًا بأن المرأة إذا تعلّمت نهض بها بيتٌ وارتقى بها وطنٌ وازدهرت بها أمة جعلت من القاعات منابر ومن الدروس دعوة ومن المحاضرات رسائل إيمانٍ وعلمٍ ووعي.
لكنها لم تحصر رسالتها في أروقة الجامعة، بل خرجت إلى الميدان الحقيقي حيث تصنع الأجيال فأنشأت مدارس خيرية للبنات في مكة المكرمة لتكون بيتًا للنور وموئلًا للحفظ والعلم والتقوى، صرحًا تربويًا يُخرّج حافظاتٍ لكتاب الله عاملاتٍ في ميادين الخير والعلم وكان ذلك المشروع الوقفي نموذجًا للوفاء والإخلاص يغرس في الطفلات حب القرآن وفي المعلمات روح المسؤولية وفي المجتمع شعلة العمل الجماعي المخلص.
وكانت -رحمها الله- حاضرةً في ساحات الدعوة حول العالم تجوب البلاد الآسيوية والغربية بالكلمة الطيبة والخلق الرفيع تدعو باللين والحكمة وتنشر نور الإسلام بين القلوب التي أنهكها الضياع حتى شهدت على يديها نساء ورجال يدخلون في الإسلام حبًا لا خوفًا ويقينًا لا تقليدًا.
وحين تحدثت عن التعدد في الإسلام قالت بلسان العارفة الحكيمة إن التعدد شريعة رحمة لا مظلمة وإنه تكامل لا نقصان وأن الله حين شرعه أراد للإنسان أن يبقى متوازنًا في دنياه ليقيم دينه على نورٍ وعدلٍ وأن المرأة المسلمة في الإسلام مكرمة مصونة لها حقها في الاختيار كما للرجل في التعدد ومن فهم الرحمة في الشرع فهم معنى الحياة.
ومن مؤلفاتها التي كانت كالمصابيح في الدجى كانت تتحدث عن روح الإسلام وعدله ومحبته وعن الأسرة المسلمة في زمن العولمة الذي واجهت به تيارات التبديل والتحريف فكانت حروفها تهدف لنحيا بالقرآن كقلبٌ يعيش بالقرآن لا يدرسه فقط.
حضرت المؤتمرات المحلية والإقليمية والدولية تناقش قضايا المرأة والأسرة والإعجاز العلمي وتقدّم فكرًا وسطيًا متوازنًا بعيدًا عن الغلو والانغلاق قريبة من القلوب بعيدة عن الجدل قوية الحجة لينة القول وكان حضورها ناعمًا كنسمة لكنه مؤثر كضوء الفجر.
ورحلت في الواحد والثلاثين من يناير عام ألفين وثلاثة وعشرين تاركةً خلفها إرثًا من النور والعلم والدعوة والمواقف والذكريات رحلت جسدًا وبقيت فكرًا بقيت أثرًا لا يمحوه النسيان.
واليوم ونحن نقرأ سيرتها ندرك أن فاطمة نصيف ليست مجرد اسم في ذاكرة الدعوة، بل تجربة حياة متكاملة، مدرسة علمٍ وبيت حنانٍ وقلب أمٍ وزوجةٍ صالحة جمعت بين العقل الراجح والقلب الرحيم، بين الحزم في الموقف واللين في التعامل بين علم الأكاديميا ونور الإيمان، بين اهتمامها بطلابها وحرصها على أبنائها، بين إدارتها للجامعات وإدارتها لدفء بيتها كانت تؤمن أن النجاح في البيت لا يقل عن النجاح في المنبر وأن تربية الأبناء عبادة لا تقل قداسة عن تدريس العلم.
فاطمة نصيف -رحمها الله- من أجمل القصص التي نستمد منها قوة الإدراك وقوة الحجة للجيل الجديد أن يستلهم منها معنى الاتزان في الحياة أن يتعلم أن الإيمان ليس عزلة، بل عمل وأن الدعوة ليست شعارًا، بل سلوك وأن المرأة تستطيع أن تكون أمًا ناجحة وعالمة مبدعة وداعية صادقة وأن النهضة الحقيقية تبدأ من بيتٍ تُدار بروح فاطمة ومن عقلٍ يقرأ بعينها ومن قلبٍ يصدق كما صدقت أن يُدرك الجيل أن فاطمة نصيف لم تكن مجرد داعية، بل كانت فكرة متحركة بيننا، فكرة تقول اعمل وعلّم وازرع الخير حيث أنت لا تنتظر التصفيق، بل انتظر الأجر، فكرة تهمس أن العلم لا يُقاس بالشهادات، بل بالأثر ولا تُقاس الدعوة بالكلماتن بل بالقلوب التي تُحييها.
فاطمة نصيف كانت أنثى النور ووريثة الكلمة الصادقة، حملت الرسالة وعاشت من أجلها ورحلت عنها، كما يرحل الطيبون حين يكتمل عطاؤهم، لكنها تركت لنا يقينًا بأن من يعيش لله يبقى حتى بعد الرحيل ومن يزرع الخير يحيا وإن غاب، رحم الله فاطمة نصيف وجعل علمها صدقة جارية ودعوتها نورًا خالدًا وأثرها مرآةً صافية يرى فيها الجيل الجديد طريق النور والحياة.