أحمد بن محمد الغامدي
حين يتحول المنزل إلى مجرد جدران، والزمن إلى تواريخ باهتة، والروح إلى مرآة لا تعكس سوى غياب من كانت كل الحضور، تشعر حينها بفقدان السند والسكن والأهل.
رحلت أمي «فاطمة بنت أحمد الشرفاني الغامدي» فاختفى النور الذي كان يملأ أركان أيامي، وانطفأت الشموع التي تُضيء دروب حياتي، غادرت الحبيبة، لتترك خلفها إرثاً لا يُحصى من الحكمة والكرم، وسيرة عطرة جعلت حزننا عليها يتجاوز حدود الأسرة ليكون حزن القرية والأهل وكل من عرفها.
أبكيك يا أمي بصمت مهيب، بألم يَعتصر قلبي، ودموع تمتزج بالرضا والإيمان بقضاء الله، تلوذ الروح بذكراك كأنها تبحث فيك عن نفسها، رحمكِ الله رحمةً واسعة يا من تركتِ في القلب أثرًا لا يزول.
رحلت أمي، ولم يرحل أثرها، بقيت صورتها في كل زاوية، ورائحتها في تفاصيل البيت، وصوتها في الذاكرة، دعاؤها يسبقنا في الليل والنهار، وكأنها ما زالت هنا، تهمس لنا: «لا تنسوني بدعواتكم».
أمي امرأةً قويةٌ حين يحتاج الموقف إلى قوة، رحيمةٌ حين يضيق الناس بالرحمة، ثابتةٌ في الشدائد كجبل لا تهزه العواصف، عرفها الجميع بهيبتها وكلمتها التي تُسمع، واحترامها الذي تُحيط به كل من حولها، لكن خلف تلك القوة كانت تملك قلبٌ ناعم كالحرير، لا يطيق أن يرى محتاجًا أو فقيرًا إلا وبادرته بالعطاء، تُعطي بيمينها دون أن تدري شمالها.
كنا نظن أننا نعرف كل شيء عنها، حتى كشف لنا الرحيل وجوهًا خفية من خيرها، فقد علمنا بعد وفاتها أنها كانت تمدّ يدها إلى أيتام وأرامل وبيوتٍ لم تخبر بها أحدًا، تصنع المعروف بصمت، وتبتسم كأنها لم تفعل شيئًا.
في كل عيد، يتجمّع الأطفال حولها ينتظرون «عيديتها»، في عيونهم فرحٌ يشبه الفجر، وفي قلبها سعادة الأم التي ترى البهجة تنتقل من يدها إلى وجوههم، لم تكن ترى العطاء واجبًا، بل فرحة، ولم يكن الكرم عندها تفضّلًا، بل طبيعة.
في كل مناسبة، كانت تبدأ حديثها بالدعاء لولاة الأمر خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين «حفظهما الله» ، مؤمنة بأن شكر النعمة يبدأ بالدعاء لمن سخرهم الله لرعاية وطن بأكمله، إيمانها كان صادقًا بسيطًا كقلبها، ووصاياها لنا كانت تختصر الحكمة كلها، تقول بحنان كبير: «كونوا لبعضكم سندًا، لا تفرّقكم الدنيا، تماسكوا كما كنا دائمًا معًا».
كانت تحتوي كل واحدٍ منّا بطريقة مختلفة، تسأل عن أولادي وزوجتي كما تسأل عن إخوتي وزوجاتهم، تتابع أخبارنا الصغيرة بتفاصيلها كأنها تعيشها معنا، وتُشعر كل واحدٍ منّا أنه الأقرب إلى قلبها، حتى كنّا نقول: «أمي تخصني وحدي»، لكن الحقيقة أنها كانت تسعنا جميعًا بقلبٍ واحدٍ كبير، قلبٍ لا يضيق، لا يمل، لا يتوقف عن الحب والعطاء.
في مرضها الطويل، كانت مثالًا للصبر والرضا، لم تضعف يومًا رغم الألم، بل كانت تخفّف عنا وتواسي قلوبنا وهي على فراشها، تقول لنا دائمًا: «أنا بخير، روحوا لأولادكم، لا تشيلوا همّي»، تتحدث بهدوءٍ يشبه الطمأنينة، وكأنها كانت تُهيئنا لليوم الذي تمضي فيه.
كانت تعرف أن الفراق قريب، لكنها كانت تواجهه بابتسامة مؤمنة، ورضا مطمئن لا تملكه إلا القلوب التي عرفت الله حق المعرفة، وحين جاء الرحيل، غمرنا الحزن كما لم نفعل من قبل، لكننا رأينا في تلك الأيام ما يخفّف الوجع قليلًا.
لقد كانت أيام العزاء بمثابة كشف حساب إلهي لرحلة حياة أمنا، توافدت الجموع، ووصلتنا تعازٍ كريمة من صاحب السمو الملكي الأمير الدكتور حسام بن سعود بن عبدالعزيز أمير منطقة الباحة، وأصحاب سمو ومعالي ومسؤولين وشخصيات عامة ورجال أعمال وإعلاميين ومثقفين ومؤثرين، لكن العزاء الأكبر كان في قصص الخير التي لم نكن نعلمها، شهادات من المحتاجين والناس البسطاء الذين كانت عونهم السري.
جاءتنا رسالة من أخ عزيز كانت خير سند لنا، لخصت كل شيء: «ابشر بخير أخي أبا عزام، فالله أرحم بها منكم، إنها امرأة خيرة ولها مناقب في الخير ومساعدة المحتاجين، ونحن بعدها، نمشي طريقها في أعمال الخير»، كانت هذه الجملة بمثابة عهد جديد على أن إرث الوالدة، إرث الخير والعطاء، لن يموت بموتها، سنحمل جميعاً راية ما قامت به في السر والعلن، لتظل روحها حية تُرزق في ميزان حسناتها.
ستبقى أمي «فاطمة» وطنا لا يغيب، قصة جميلة أرويها بكل فخر وكبرياء لأبنائي واحفادي، ستبقى بدعواتها وروحها وقلبها وأعمالها الصالحة، التي لا تزال ترافقنا، وعطائها الذي لا ينضب.
رحمكِ الله يا أمي، وجعل قبركِ روضةً من رياض الجنة، وغفر لكِ بقدر ما في قلبكِ من طيبة، وأسكنكِ دار الكرامة مع من أحببتِ من الصالحين.. و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.