د.محمد الدبيسي
.. ثُمَّ إنَّ الثورةَ العربيةَ التي قادها الشريف الحسين بن علي (ت 1350هـ=1931م)، وكان الحجازُ مسرحها الرئيس، واقتضت حصارَ المدينة المنورة، وعُزلتَها، ليس عن شقيقاتها مكة وجدة فحسب، بل عن العالم أجمع؛ كان قد مرَّ على انتهائها (عَشْرةُ) أعوامٍ تقريبًا، وتلاشت تداعياتُها في المدينة المنورة خاصةً، وفي الحجازِ بصورةٍ عامةٍ، وهو ما هيأ لشبَّانِه من الأدباء في مكة المكرمة، وجدة، استهلالَ عهد نهضته الأدبية، بالكُتُبِ (الثلاثةِ) المتزامنةِ في نشرها وانتشارها.
وإلى ذلك ذهبَ الناقد الأستاذ حسين بافقيه، بقوله: إنَّ «ثلاثةَ كُتُبٍ؛ كانت هي عنوانَ النَّهضَةُ الأدبيَّةَ الحَديثةَ في البلاد أدبُ الحِجَاز 1344هـ=1926م، والمَعْرَض 1345هـ=1926م، وخَواطِرُ مُصرَّحَة 1345هـ=1926م»، وجاءت مسألةُ الأدبِ الحديثِ، من بين المباحث الثقافية، التي نهضَ بها بصورةٍ عامةٍ خطابُ الكُتُب (الثلاثة)، على تباينٍ بينها في المنهج والمضمون، وتباينِ مشارب مؤلِّفَيها، والمشاركين فيها، واتجاهاتهم.
وهي في مجموعها تمثِّلُ الأدبَ الحديث، وتحقِّقُ فهمَهُ، وتنهضُ بجوهره، وتعبِّرُ عن فكر تلك المرحلة، التي خَفَّ شُبَّانُها في مكة المكرمة وجدة، على وجه التحديد؛ إلى إقامةِ قواعد النهضة الفكرية والأدبية، على ضوء وعيٍ دقيقٍ، ورغبةٍ حثيثةٍ في التغيير، وتطلعٍ لعهدٍ بدتْ فيه ملامحُ التغيير، وتجديد الفكر، وتوعية المجتمع بفروض المرحلةِ ومتطلباتها، إلى جانب قضايا أخرى مهمةٍ، تضمَّنتْها تلك الكتب، ولا سيما كتاب العواد، و(خواطِرِهِ)، «التي حملتْ في دعوتها آراءً مستحدثَةً، ونظراتٍ في النقدِ والأدبِ والحياةِ، وجَهرتْ ببعض المفاهيمِ الجديدة، التي كانت نتيجةَ فهمٍ واستيعابٍ واطلَّاع، وتأثُّرٍ بما كان يجري في البيئاتِ الأدبيةِ خارج محيط الحجاز»، وقد فصَّلَ الباحثُ الأستاذ عبدالرحيم أبو بكر في الحديثِ عن الدَّورِ الذي قام به أدباءُ مكة المكرمة وجدة، في الدعوة إلى التجديد في مفهومِ الشِّعرِ وأغراضه، وفي النقد الأدبي، وقواعده، ومقوماته، وعرض نماذج نصيَّة لذلك. واستفاضَ في الحديثِ عن دورِ محمد حسن عواد في هذا الجانب، في كتابَيْهِ: (خَواطٍرُ مُصَرَّحة، وتأمُّلاتٌ في الأدبِ والحياة)؛ وساقَ شواهدَ نصيَّة منهما، وانتهى إلى: أنَّها «تمثِّلُ طَرَفًا من الدورِ التجديديِّ الذي التزمَهُ العوادُ، وانحازَ إليه منذ شبابِهِ، واستطاعَ بهذا النَّشاطِ النقديِّ، أن يُسهمَ في إرساءِ دعَائمِ حركةِ التطورِ والتجديدِ، في حياتنا الأدبيَّةِ الحديثَةِ في الحجاز».
وهي بذلك، وبوصفها من تجليَّاتِ الأدبِ الحديثِ؛ تجاوزتْ موضوعًا ومضمونًا؛ فَهْمَ عبدالقدوس الأنصاري -في ذلك الوقت- الأدب الحديث: مفهومه وتجليَّاته، أو غايرته إلى حدٍّ بعيد.
ويبدو أنَّ (الأدبَ الحديثَ) عند الأنصاري، لم يكن مصطلحًا جَليَّ المعنى، ولم يكن يعوِّلُ في فهمه إيَّاهُ، وتعيُّنِه لديه، على المتَّفَقِ عليه عند الدارسين في عصرِهِ، وبعد عصره؛ أنَّه الأدب الذي تشكَّل في عصر النهضة، بمقوماته الفنية، وأغراضه ومضامينه الجديدة، وخصائصه الموضوعية والأسلوبية، وتأثُّره بالآداب الغربية، وإفادته منها، وشواهده وأمثلته كثيرة شائعة؛ بل كان يقصد بالنَّعتِ (الحديثِ): الدلالةَ اللغويةَ الظَّرفية المحضة - وليس الدلالة الفنية أو الاصطلاحية - أي المدة التي نشأ فيها ذلك الأدب: المنعوتُ بالحديثِ، بغضِّ النظرِ عن مقوِّماته وأفكاره ومضامينه، وآفاقه، وهي المدة نفسها الذي نشأ فيها هو ورفاقه.
ولذلك أخذه الانبهار بالتعبيرات والصياغات الجديدة، التي راجت في تلك الحقبة، وأدبياتها في الكتابة، ولم يكن ألِفَهَا هو وبعض جيله، في دراستهم التقليدية للتراث الأدبي العربي، الذي تلقَّوهُ في مراجعه التراثيةِ المعتبرة، ثمَّ يمَّمُوا صوبَ مصادرَ أخرى في القراءةِ والتَّلقي، لم يكونوا طالَعُوها أو عرَفُوها من قبل، وهي ابنة زمنها وظروفه الثقافية، وهي حديثةٌ عنده في ذلك الوقت، بسببِ ظرفها الحديث، وآنِها العصري، وانحسر فهمه لها حينئذ، على هذا الجانب فقط، يقول: «وكنَّا نطالعُ بعض الصُحُفِ المصريةِ كالأهرام والمقَطَّم، والمجلات كالمقتَطَف والهلال؛ لنتفهَّمَ حقائقَ الأسلوبَ العصري ومراميه، وقُلْ مِثلَ ذلك في الشعر، وكان ديوانا أحمد شوقي وحافظ إبراهيم متداوَلَين لدينا، وكنَّا نقرأُ دائرة المعارف لفريد وجدي، لنستوعبَ مفاهيمَ التعبيراتِ الحديثة، التي لم تمر علينا من قبل، وهكذا.. حتى استوعبنا كثيرًا من أهدافنا، وبدأنا نكتبُ رسائلَ سِمتُها العصرية لبعضنا، وربما نتجاوزها إلى كتابةِ أفكارِنا بذلك الأسلوبِ شعرًا، ونثرًا».
ومن المباحث التي وَسِعَها كتابُ الأنصاري: (أدبُنا الحَديثُ كيفَ نَشأَ وكيفَ تَطوَّر)، حديثه عن الاستفتاءات، في كتابه الذي لم يظهر: (أولُ أثرٍ ظهر)، ثم صارت أحد أبواب المنهل الرئيسةِ فيما بعد. وقد تحدَّثَ الأنصاريُّ عن بواعثِ فكرتها لديه، وكيف كانت لُبَّ موضوعَ كتابه آنف الذِّكر، وملابساتِ علاقتِها بكتاب الصبَّان: (المَعْرَض) وما تضمَّنه من استفتاءٍ، وإجاباتٍ، وما إلى ذلك من شؤونٍ.
ومصطلح الاستفتاء، مشتقٌ من الجذر اللغوي: (فَتَى)، يقول العالم اللغوي ابن فارس: «الفَاءُ والتَّاءُ والحرفُ المعتلُّ أصلانِ؛ أحدهُما: يَدلُّ على طراوةٍ وجِدَّةٍ، والآخرُ: على تبْيينِ حُكْمٍ..، والأصلُ الآخرُ: الفُتيا، يُقال: أفتى الفقَيهُ في المسألةِ إذا بيَّنَ حُكْمَها، واستفْتَيْتُ: إذا سألتُ عن الحُكْمِ»، وقد شاعتْ اشتقاقاتُ هذا المصطلحِ، عند المشتغلين بالشريعة وعلومها، من قدماءَ ومحدثين، ثم تطوَّرت استخداماته، لتصل إلى حقل السياسة وشؤونها، التي أضحى الاستفتاء فيها، من الإجراءات المتعارف عليها في النُّظُم الديمقراطية، وما إليها.
وفي حقل الأدب؛ تداوَلَ أدباؤنا هذا المصطلح وراجَ بينهم، منذ أذاعَهُ الأديب الرَّائد محمد سرور الصبَّان، في كتابه (المَعْرَض)، الذي أسَّسَهُ على فكرة الاستفتاء، وكان واعيًا بمفهومه، وحقله الدلالي، ولم يتوقف في مُرادِهِ منه، عند السؤال فحسب، الذي يعدُّ من معانيه المعجمية الأصيلة والمتداولة، ومن مقاصد الصبَّان أيضًا في كتابه، بل أراد كذلك استجلاء آراء أدباء الحجاز ومثقفيه- وذلك من المقاصد الدلالية لمصطلح الاستفتاء- فيما وصفه بـــ(الصِّراع) الذي شهدته تلك المدة، بين فريقين من الأدباء في البلاد العربية، كما قال: «فريقٌ يرى المحافظةَ على أساليبِ اللغةِ القديمةِ، وقيودِها المعروفةِ، ويرى الفريقُ الآخرُ تحطيمَ تلك القيود، والسَّير في طريقٍ جديدةٍ متطرفةٍ، لا تتقيَّدُ بقانونٍ، ولا تخضعُ لنظام»، ومن هنا، جاء استفتاؤه، وقام كتابه على قضيةٍ معيَّنةٍ مُهمَّةٍ في نظره، أراد تكوين (رأيٍّ عامٍّ) حولها كما ذكر، فصاغَ سؤالًا ووجَّهَهُ إلى مجموعةٍ من أدباء الحجاز الشُّبان، وطلب منهم الإجابة عنه؛ وقال - بعد أن أوجزَ آراء «حملةِ الأقلامِ في الشَّرقِ العربيِّ، والمَهجَر»، في تلك القضية، وأورَدَ مثالًا لها-: «.. فعوَّلتُ على استطلاعِ أفكارِ إخواني شُبَّان الحجاز، والعِلْمِ بآرائهِم في هذا الصراع، فأرسلتُ إليهم هذا السؤالَ: هل من مصلحةِ اللغةِ العربيَّةِ، أن يُحافظَ كُتّابُها وخُطباؤها على اللغة الفصحى، أو يجنحوا إلى التطور الحديث، ويأخذوا برأي العصريين في تحطيم القيودِ اللغويَّةِ، ويسيروا على طريقةٍ عاميَّةٍ مطلقةٍ؟؛ فتفضَّلوا بإبداءِ رأيكَم، وما يحملُكُم على ترجيحِ إحدى الكِّفتينِ، من البراهينِ القاطعةِ، والأدلَّةِ المعقولَةِ، عسانا نجدُ من مجموعةِ أقوالِ أهلِ الاطلاع؛ ما يُساعدُنا على تكوينِ رأيٍّ عامٍّ في هذا الموضوع المهم»، وتؤكِّد صياغةُ الصبَّان للسؤالِ؛ حرصه على تكوين (رأيٍّ عامٍّ) -إحدى غاياتُ الاستفتاء- لأدباء الحجاز في شأنِ اللغةِ العربيةِ، والتزامِ قواعدها، وأساليبِها الفُصحى في التعبير الأدبي، وقد أوحى برأيه هو، في هذه القضيةِ، في سياقِ السؤالِ ذاته، عندما قال: «.. ويرى الفريقُ الآخرَ تحطيمَ القيودِ، والسَّيرَ في طريقٍ جديدةٍ لا تتقيَّدُ بقانونٍ ولا تخضعُ لنظام» ص7، وهو مَنْ كان يراهُ كثيرٌ من أدباء ذلك الجيلِ من شُبَّانِ الحجاز؛ رائدًا وراعيًا وشيخًا لهم؛ لأدوارِهِ الجليلة فشُؤونِ الأدبِ والثقافَةِ، وإسهاماتِهِ العظيمَةِ في العملِ الوطني.
وقد أَجَابَهُ عن سؤاله: (عَشْرةُ) أدباء، ونشر إجاباتهم في الكتاب، الذي كان من أوائل الأعمال الأدبية، التي صدرت في تلك المدة، وتلقَّاه أدباؤها بالقبولِ والاحتفاء، ومثَّلَ مرحلةً تأسيسيةً في الحركة الثقافية، كان لها ما بعدها.
ومن هنا، قام الأنصاريُّ باحتذاءَ طريقِ الصبَّان، عندما عقَدَ أكثرَ من مبحثٍ في كتابه (أَدَبُنا الحَديثُ كيفَ نَشأَ وكيفَ تَطوَّر)؛ للحديث عن الاستفتاءات، وليس للاستفتاءات ذاتها، وهي ذاتُ صلةٍ متينةٍ بحديثِهِ عن ريادته الأدب الحديث، إذ عدَّها (بواكيرَ ثمارِ شَجرةِ الأدبِ الحديثِ)، بقوله: «بدأتْ شَجرةُ الأدبِ الحديثِ تخضرُّ وتنضرُ، وبدأتْ بواكيرُ ثمارِها تَظهرُ إلى حيِّزِ الوجود، وأخذتْ طريقها إلى الحياةِ والنموِ والتطور. وكان أوَّلُ حَدَثٍ أو أثرٍ أو مظهرٍ دلَّنا نحن القائمين على غرسِها وسقيِّها وإنمائِها؛ على أنَّ الطريقَ أصبحَ مفتوحًا أمامها؛ هو تلك (الاستفتاءاتُ) الأدبيَّةُ المُنهمِرةُ، من شبابٍ أدباءٍ أحبُّوا هذا الأدبَ الحديث».
فالاستفتاءاتُ برأيه، هي: (أوَّلُ أثرٍ ظهرَ، وهي أوَّلُ ثمارِ الأدبِ الحديثِ) عنده، وبدأها كما قال: «بالاستفتاءِ الذي قدَّمتُهُ لهم سنة 1347هـ= 1928م، الذي أوردتُ نصَّهُ في الفصلِ المعقودِ لدَورِ الاستفتاءاتِ في المدينة»، فإذا عُدنا لذلك الفصل ألفيناه يقول: «وكانت فاتحةُ هذا المظهرِ الجديدِ للأدب، أو هذا الطَّورِ الجديد؛ تفتُّحَ براعمَ الأدبِ النثري، خاصةً ذلك الاستفتاءُ الذي قدَّمتُهُ للإخوان، ونَصُّهُ: (ما هي الطريقةُ المُثلى التي ترونَها حضرتُكم كافلةً بتلقيحِ أدمغةِ ناشِئتنا بفنيِّ التَّحريرِ والتَّحبيرِ، والتي تؤهِّلهُم في القريبِ العاجلِ لأنْ يكونوا رجالَ الغدِ كتابةً وشِعرًا؟)، ومما دُونَه كُلَّهِ، وحفلَ به كتاب (أوَّل أثرٍ ظهر)، الذي قرَّرتُ نشرَهُ بحذافيره، وكتراثٍ أوَّليٍّ من آثارِ تكوُّنِ جنينِ الأدبِ، وظهورهِ لحيِّزِ الوجود».
ولا نكاد نجدُ غير هذه الإشارة إلى نَصِّ هذا الاستفتاء، في الكتابِ بطولِهِ وعرضِهِ، من الاستفتاءات التي ذكر أنَّ هذا الاستفتاء هو أوَّلُها..!، فيما أحالَ كثيرًا في الكتابِ نفسه، على هذا النص؛ معوِّلًا على تضمُّنِهِ إجابات الأدباء المُسْتَفْتَينَ، وهو ما خلا منه الكتاب، كما ذكرنا.
ثم إنَّ الأنصاري يُلْبِسُ على القارئِ بقوله: «وقد رأيتُ أن أنشرَ هذا الكتيِّبَ (أوَّل أثرٍ ظهر)، الذي يُعتبرُ القاعدةَ الأُولى للتأليفِ عن الحركةِ الأدبيَّةِ الحديثةِ في المدينةِ على حالتِهِ، بدونِ تعديلٍ أو تبديلٍ».
واللَّبْسُ هنا يتأتَّى من كثرةِ إحالاتِهِ على كتابه المُفترض: (أوَّل أثرٍ ظهرَ)، في كتابه: (أدبنا الحديث..)، يقول في سياق حديثه عن انطواءِ أدبِ المدينةِ المنورةِ، على نفسِهِ: «وتتجلَّى ظاهرةُ هذه الانطوائية، في نصِّ مُقدمةِ كُتيِّب: أول أثرٍ ظهر، لكاتبِ هذه السُّطورِ، الذي تمَّ تأليفُهُ وتدوينُهُ بشكل كتابٍ مُؤلَّفٍ من موضوعاتِ الاستفتاءاتِ طرحًا وإجابةً..، تقولُ مقدِّمةُ الكُتيِّب كما هو مُثبتٌ في مخطوطتِهِ القديمِةِ: وبعد، فليَ الشَّرفُ أنَ أُقدَّمَ اليومَ إلى مكتبةِ العالمِ الأدبيِّ سِفرًا حديثًا في الأدبياتِ، حديثًا في المبدأِ والنَّشأةِ والتكوُّن، حديثًا في كُلِّ شيءٍ، وذلك السِّفرُ المُقدَّمُ، هو: أوَّلُ أثرٍ ظهرَ، من آثارِ النهضةِ الأدبيةِ الحديثةِ في المدينة المنورة، ولم يتضمَّنَ الكِتابُ إجاباتِ الأدباءِ -على هذا الاستفتاء- لا بنصِّها، ولا بمضمونِها.
فإذا عُدنا إلى مقدمة ِكتابه: (أدبنا الحديث) التي أحالَ إليها، ألفيناهُ يقول فيها: «الاسمُ الذي وضعتُه للقِسمِ القديمِ كان أوَّلُ أثرٍ ظهر..، ولكننا أعدْنا النظرَ فيه الآن، وأجرينا بعضَ تعديلاتٍ، ليتمَّ الانسجامُ بين الشِّقين المُلصقين ببعضهما..، وبعد أنْ هُيءَ لي أنْ أَجمعَ شملَهُما، وأُوحِّدَ كيانهُما، رأيتُ أنْ أضَعَ اسمًا جامعًا، وقد كان هذا الاسمُ الجديدُ، هو: أدبُنا الحَديثُ كيف نشأَ وكيف تطوَّر».
فإذا كان لأنصاريُّ قد (جَمَعَ شملَ الكتابينِ، ووحَّدَ كيانهُما، ووضَعَ لهما اسمًا جديدًا)، وظهرا للناس بعد وفاته بعنوانٍ اختاره بنفسه، كما ذكر آنفًا في المقدمة، فلماذا نجد إحالاتٍ إلى موضوعاتٍ غير موجودةٍ في الكتاب، وأهمُّها ولُبُّها: الاستفتاءاتُ التي ذكر أعلاه: (أنَّ الكتابَ مؤلَّفٌ من موضوعاتِها طرحًا، وإجابةً)..!.
ثمَّ ذهبَ إلى عقد مقارنةٍ، بين أدب مكة وجدة والطائف، وأدبِ المدينة المنورة، وذكر أنَّه كان منطويًا على نفسه، وانتقدَ محمد سرور الصبَّان، الذي سمَّى كتابه: (أدبُ الحجاز)، لأنَّ النصوصَ الشعرية والنّثرية التي أَورَدَها فيه، لم تتضمَّن أثرًا لأيٍّ من أدباء المدينة المنورة، فكيف يكون: أدبًا حجازيًا..؟، على نحوٍ من قوله: «كان الأَوْلى أن يٌسمَّيهِ: كتابُ أدبِ مكة وجدة والطائف، بدلًا من تسميتِهِ بــ(أدبِ الحِجَازِ)، إذ لا يحوي شيئًا من أدبِ المدينة المنورة، مع أنَّ أدبَ المدينة ِكان إذ ذاك، حين صدوره؛ ذا شخصيةٍ جديدةٍ، ولو وجدَ أداةً تُبرِزُهُ إلى حيِّزِ الوجود، لبرزَ إلى حيِّزِ الوجود، قبلَ (أدبِ الحجاز)»، فالأنصاريُّ هنا، ينكرُ خلوَّ أدب الحجاز، من أدب المدينة المنورة، الذي ذكَرَ سابقًا انطواءه على نفسه، وقرَّرَ وجود انفصال تامٍّ بينه، وبين أدب مكة وجدة، يقول الأستاذ حسين بافقيه؛ في تناوله هذه المسألة: «لكن أدباءَ مكة المكرمة وجدة، ومنهم نفرٌ لا صِلةَ لهم بالكتاب، يقولون: إنَّهم لا يعرفونَ حتى بعد ذلك العهد، أيَّ شيءٍ عن الأدبِ والثقافةِ في المدينة المنورة، ويُقابلُهم المدنيُّونَ بالشعور نفسه»، وساقَ الأستاذ بافقيه في تقديمه لــ(أدب الحجاز) طرفًا من أحاديثٍ للأدباء: أحمد قنديل، ومحمد سعيد عبدالمقصود، وعبدالقدوس الأنصاري، في هذا الشَّأن.
والأنصاري يعلم -وهو اللُغويُّ المحقِّقُ- أنَّ إطلاق العام، وإرادة بعضه، أو إرادة الخاصِّ واردٌ وصحيحٌ في أساليب اللغة العربية، ثم إنَّ الكتابَ عملٌ تأسِيسيٌّ، يمثِّلُ البدايةَ الأُولى لحركة الأدبِ في الحجاز، ولأنَّه يعلمُ ذلك، فقد صدَفَ عمَّا يعلمُه، واختار ما يريدُه..!.
وإلا فـ(أدب الحجاز) خلا كذلك، من أيِّ أثرٍ لأدباء من مكة المكرمة، «وعساك تردُّ خلُوَّ الكتابِ من أعمالٍ للسِّباعيِّ وفِلالي وعبدالمقصود- وهم أدنى إليهم في مكة المكرمة، إلى أنَّهم -وهذا ما نعرفه متيقِّنين، عن السباعي- كانوا في طورِ النشأة والقرزمة والمَرَانة، وما جمعتهم به رابطة».
وفي سياق حديث الأنصاريِّ أيضًا، عن كتاب الصبَّان - الذي يُعدُّ الأثرُ الأدبيُّ الأوَّلُ في المملكة، وأوَّلُ أثرٍ ظهرَ فيها بحقٍّ، مِنْ أدبِ الحجازِ الحديث بعامةٍ- يقول: «إنَّه لم تكن هناك علاقةٌ فكريَّةٌ ما بين المجتمع في مكة وجدة والطائف، وبين المجتمع في المدينة، لقد كان هناك انفصامٌ كاملٌ بين المُدنِ الثلاث». ثمَّ نقضَ هذا الحديث، وتراجع عنه، عندما تحدَّثَ بعد ذلك، عن (توافقٍ بين المُدنِ الثلاث، في منهجيةِ التفكير)، بقوله: «وسيجدُ دارسو الأدب الحديث في المملكة، أثرَ التوافقِ في منهجية التفكير، الذي كان يجلِّلُ آفاقَ واضعي بذور الأدب الحديث، في تلك المدن الرئيسة في الحجاز..، يجدُ ذلك التوافقُ بيِّنًا واضحًا فيما إذا قارنَ برويَّةٍ، بين قوليِّ كتابَيّ (أدب الحجاز)، و(أوَّل أثرٍ ظهر)، في مُقدِّمَتيهِما..، قَولُ محمد سرور الصبان: (وهكذا يصدرُ هذا الجزءُ مُهشَّمًا مُقطَّعَ الأوصال، قاصرًا عن الغايةِ التي أُريدُها)، وقَولُ عبدالقدوس الأنصاري، في مقدمة أوَّل أثرٍ ظهر: (على أنِّي لا أجدُ مندوحةً عن التصريحِ بأنَّ هذه المجموعةُ، رغم ما أحطتُها به من سياجِ التَّنقيحِ والانتحالِ والتَّشذيبِ والتَّرميم، فما هي بخاليةٍ من مواضعِ الضَّعفِ والاضطرابِ، والرَّكاكةِ والتشويشِ، في كل المناحي)..»...
يتبع