هويدا المرشود
الأفكار لا تموت فجأة،
إنها تتعفن ببطء.
تبدأ بالنكوص حين تُحاصرها الألفة،
وتفقد بريقها حين تُكرَّر بلا وعي.
كل فكرة لا تُختبر بالنقد تتحول إلى جثةٍ أنيقة، وكل عقلٍ يهاب السؤال يتحول إلى ثلاجةٍ تحفظ المفاهيم القديمة تحت لافتة «ما اعتدنا عليه».
العفن الفكري لا يسكن الجهل، بل يسكن الاطمئنان المفرط إلى ما نعرفه.
يتسلل حين يُصبح الكلام أكثر من الفهم،
وحين نعيش في دائرة التصديق دون تمحيص،
وحين نخلط بين الراحة الفكرية والنضج الحقيقي.
يبدأ من لحظة الصمت المريحة أمام الخطأ،
ويمتد إلى ثقافةٍ تحتفي بالنسخ وتخاف الابتكار.
نظن أحيانًا أننا نختلف،
لكننا في الحقيقة نكرر ذات الأصوات بثيابٍ جديدة.
نغيّر اللغة لا الفكر، ونُبدّل الأسماء دون أن نبدّل الوعي.
ذلك هو العفن في أصفى حالاته:
أن نظن أننا نحيا ونحن نستنشق غبار الأمس.
في الفضاء الإعلامي، تتكاثر الأصوات وتختنق الحقيقة.
لم يعد الرأي بحثًا عن معنى، بل سباقًا على التأثير.
تُصاغ القضايا كعناوين عاطفية لا كمساحات للتفكير،
وتُقاس القيمة بعدد الإعجابات لا بوزن الطرح.
صار الصخب بديلاً عن العمق،
والسطح واجهةً تُخفي عجزًا عن الغوص.
وهنا يظهر العفن في أوضح صوره:
حين يتحول الإعلام إلى مرآةٍ تعكس الجماهير بدل أن تُنيرهم.
وفي ميدان الرياضة، لم ينجُ الوعي من العدوى.
تحولت المنافسة إلى صراع هوية،
وتحوّل الشغف إلى صراخٍ جماعي يغيب فيه الفكر خلف الرايات.
المفترض أن تكون الرياضة درسًا في الانضباط والرقي،
لكنها أحيانًا تُستعمل وقودًا للتعصب،
حتى غدا الانتصار مؤقتًا والهزيمة عارًا، وغاب المعنى الأصيل:
إن الفوز الحقيقي هو في تهذيب السلوك قبل تحطيم الخصم.
أما في العلاقات الإنسانية، فالعفن يلبس وجهًا لطيفًا.
يتجلى حين نُجامل أكثر مما نُفكر، وحين نُساير حتى نفقد وضوحنا، وحين نُسمي الخوف من المواجهة «لباقة».
هناك، يُصبح الصدق ثقيلًا، وتُصبح الأقنعة عادةً تحفظ شكل الهدوء وتخنق جوهر الإنسان.
العفن الفكري هو السكوت المتراكم الذي يحوّل العقول إلى متاحف، يحفظ فيها الناس بقايا أفكارٍ كانت حية يومًا ما.
وحين نحاول تنظيف الزجاج، نكتشف أن الصدأ ليس في السطح، بل في العمق.
لا يُغسل هذا العفن بالمجاملات، ولا بالعطور الخطابية.
إنه يحتاج إلى ضوءٍ يقتحم الركود، إلى نارٍ تحرق التكرار لا الناس.
إلى وعيٍ يملك الجرأة على أن يقول:
«ربما كنت مخطئًا»،
وإلى عقولٍ تفضّل الحقيقة على الراحة، والسؤال على الطمأنينة.
ليست الحرية في أن تقول ما تشاء،
بل في أن تفكر كما تشاء دون أن تخاف العزلة.
فالأمم لا تنهار حين تُهزم في المعارك، بل حين تتعفن في الصمت،
وتكتفي بالحديث عن ماضيها بدل أن تصنع مستقبلها.
لنحذر إذًا من الهدوء المفرط، فما يبدو استقرارًا قد يكون تحلّلًا أنيقًا،
وما نسمّيه «حكمة الصمت» قد يكون بداية العفن الذي يخنق الفكر.