طارق محمود نواب
عودُ الثقاب ليس جمادًا يُشعل النار، بل كائنٌ صغيرٌ يحملُ فلسفةَ الحياة في رأسه أن لا ضوءَ بلا احتكاك، ولا ميلادَ بلا وجع، ولا معنى بلا اشتعال. إنه رمزٌ لكل لحظةٍ يُقرِّر فيها الإنسان أن يخرج من الظلّ، وبأن يقول للركود «كفى»، وأن يواجه ليله بوميضٍ من الإرادة، حتى لو علم أن النار ستأكله قبل أن تنطفئ.
وفي هذا العود درسٌ لا يُقال بالكلمات، بأنّ القوّة ليست في حجم اللهب، بل في القرار الذي أشعلها.
وأنّ السموَّ ليس في مَن يُضيء العالم، بل في مَن يجرؤ على أن يُضيء نفسه أولًا.
ومن السهل أن تتحدّث عن النور، لكن الأصعب أن تخلقه من العدم، بأن تمدّ يدك نحو المجهول، وتقبل بأن تحترق قليلًا لتعرف مَن تكون.
فالفلاسفةُ الكبار لم يولدوا في ضوءٍ ناعم، بل في جحيم الأسئلة الأولى.
والمبدعون لم يُمنَحوا الإلهامَ هبةً، بل استخرجوه من صدأ الأيام كمن يُشعل نارًا بحجرٍ مبتلّ.
وعودُ الثقاب يقولها بوضوحٍ صامتٍ ليست كلُّ ومضةٍ صرخةَ ولادة، ولا كلُّ احتراقٍ عبورًا إلى مستوى آخر من الوعي، ومن يهرب من اللهب، سيعيش في ظلالٍ باردةٍ لا تعرف المعنى ولا الدهشة.
فاحترقْ لتُضيء، فالرمادُ الذي تخشاه.. هو أيضًا شكلٌ من أشكال النور بعد التعب. وحين تنطفئ، لا تحزن، فكلُّ ما يُضيء يترك أثرًا في العيون، وما يُنير مرةً.. لا يُنسى أبدًا.
فعودُ الثقاب ليس مجرد خشبةٍ قصيرةٍ تنتهي في ثوانٍ، بل إعلانٌ فلسفيٌّ عن الخلود المؤقّت، عن لحظةٍ قصيرةٍ تصنع أثرًا طويلًا.
وهي حكايةُ من يختار أن يبدأ، لا من يكتفي بالمشاهدة، والصوتِ الذي يشقّ العتمة، لا الصدى الذي يتردّد في الفراغ.
ففكّر...
كم من عودٍ احترق فأنار تاريخًا، وكم من خوفٍ أطفأ ضوء قرنٍ كامل.
فالحياة ليست انتظارًا أن يشرق الضوء، بل قرارٌ أن تخلقه بنفسك.
وفي الختام، كلُّ إنسانٍ يحمل في داخله عودَ ثقابٍ ينتظرُ اللحظةَ الفاصلة إمّا أن يبقى في علبةِ الانتظار، مؤجِّلًا اشتعاله بحجّة «الوقت المناسب»، أو أن يختارَ لحظةَ التوهّج، ولو كانت السماءُ تنكرُ الفجر. فالخلود لا يُقاس بعدد الأنفاس، بل بجرأة اللحظة التي قرّرتَ فيها أن تكون وهجًا لا ظلًّا.
فالذين يخافون الاحتراق يعيشون على فتات الضوء، أمّا الذين احترقوا من أجل فكرةٍ، فهم الذين خطّوا ملامح الفجر بأصابعهم.
فلا تَخشَ النارَ التي تلسع، بل الجمودَ الذي يُطفئ ما فيك من شرارة.
فمن لا يُضيء نفسه، سيبقى تابعًا لنورٍ لا يخصّه، وحياةٍ لا تُشبهه.
فاشتعِل ولو للحظة، فالنارُ التي تمرُّ بك مرّةً بصدقٍ، تكفي لتترك في الذاكرة سيرةَ ضوءٍ لا يبهت.