د. سطام بن عبدالله آل سعد
في مساءٍ مجري هادئ، كانت مجرة درب التبانة تضجّ بأخبارٍ غريبةٍ عن كوكب زحل، الكوكب الذي اعتاد أن يتباهى بخواتمه البراقة ومراكزه اللامعة في المنافسات الكونية. لكن الهمس هذه المرة لم يكن عن إنجازاته، بل عن قراراتٍ كونية غامضة بدت وكأنها تميل لصالحه في أكثر من مواجهة فضائية.
بدأت المراصد تتناقل الحديث، وتحوّلت الهمسات إلى عاصفةٍ من النقاشات عبر موجات الضوء بين الكواكب.
شعر زحل بالحرج، فاجتمع مجلسه الأعلى في قاعةٍ دائرية من الكريستال البنفسجي. قال رئيس المجلس بصوتٍ متوتر: (الكون يتحدث كثيرًا... يجب أن نردّ ببيانٍ رسمي، يثبت أننا نحترم عدالة المجرة).
وافق الجميع، وانطلقت الأقلام الضوئية تصوغ كلماتٍ لامعةً أرادوها أن تبدو ذكيةً ومحسوبة.
ظنّوا أن بضعَ جملٍ منمّقةٍ قادرةٌ على إخماد نار المجرّة، لكنهم لم يدركوا أنهم، وهم يكتبون، إنما كانوا يصنعون مرآةً تكشف ضعفهم أكثر مما تُخفيه.
صدر البيان في الصباح المجرّي التالي. بدا أنيقًا في شكله، متقنًا في إخراجه، حتى خُيِّل لبعض الكواكب أنه بيان من كوكبٍ حكيمٍ متزن. لكن ما إن قرأه سكان المجرة، حتى أدركوا أن شيئًا ما لا يبدو طبيعيًا.
ثلثا البيان يتحدثان عن «اللوائح الفضائية القديمة» التي انتهى الجدل حولها منذ سنواتٍ ضوئيةٍ مضت، أما الثلث الأخير فامتلأ بنغمة المظلومية، وكأن زحل يقول: نحن ضحايا هذا الكون.
كانت الكواكب تبتسم، والنجوم تهمس: (أراد أن يُبرئ نفسه... فإذا به يُدينها).
فالبيان الذي خُيّل أنه دفاعٌ عن العدالة، بدا كأنه محاولة للالتفاف عليها. والأسوأ أن زحل، الذي كان من أوائل الرافضين لتعديل قوانين الفضائيين 21، عاد الآن يتحدث عن «التحركات الجديدة» وكأنه يكتشفها لأول مرة.
أحد نجوم المراقبة كتب تعليقًا في إحدى الصحف المجرية: (إنها ليست أزمة لوائح، بل أزمة هوية... زحل يحاول أن يقنع نفسه قبل أن يقنع الآخرين).
والأغرب من ذلك، أن البيان لم يكن موجّهًا لمجرة درب التبانة كما ظنّ البعض، بل لشعب زحل نفسه.
كانت الإدارة الزحلية تحاول تهدئة سكانها، وإعادة برمجتهم ذهنيًا بعد موجة التشكيك التي اجتاحت الفضاء، وكأنها تقول لهم: «لا تصدّقوا ما تسمعون، نحن بخير.»
لكن محاولتهم تلك زادت الأمر سوءًا. فكل من قرأ البيان شعر أن زحل يختبئ خلف جدار من المظلومية، وأن كلماته لم تُكتب بثقة، بل بخوفٍ من انكشاف الحقيقة. فقد أراد زحل أن يُبعد الشبهات، فإذا به يُلقي بنفسه في قلبها.
ومنذ ذلك اليوم، صار البيان يُدرَّس في أكاديمية المجرّة كأحد دروس «الاتصال الفاشل في الأزمات»، كيف يمكن لجملةٍ واحدةٍ أن تفضح نظامًا بأكمله، وكيف تتحول البلاغة إلى عبءٍ حين تُستخدم لإخفاء ما لا يُخفى.
وهكذا، بقي كوكب زحل يدور حول نفسه، في مدارٍ من الحيرة، يحاول أن يقنع الآخرين ببراءته، بينما صدى المجرّة كلها يردد: كاد المريب أن يقول خذوني.