توالت بعد وفاة سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ صبيحة يوم الثلاثاء 1 ربيع الآخر 1447هـ - 23 سبتمبر (أيلول) 2025م؛ كثير من الكتابات التي رثى أصحابها سماحته ودعوا له فيها بالرحمة والمغفرة وإعلاء المنزلة.
وقد كان لنبأ وفاته الذي أعلنه الديوان الملكي من ذات اليوم بالغ الأثر على المجتمعات الإسلامية عموماً وعلى المجتمع السعودي على وجه الخصوص؛ وذلك لأن سماحته كان حاضراً دوماً في ذاكرة مجتمع وطنه.
فقد عرفه المجتمع السعودي عبر اعتلائه لمنبر عرفة طوال خمسة وثلاثين عاماً بدأ من حج عام 1402هـ(1981م)، حتى عد أطول خطيب لعرفة في التاريخ الإسلامي. أيضاً عرف المجتمع السعودي سماحته إماماً وخطيباً لجامع الإمام تركي بن عبدالله بالرياض وعرف تعلقهُ بهذا الجامع طوال عمره، منذ طفولته وحتى أدى فيه المصلون صلاة الميت عليه، يتقدمهم صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، وبإمامة ابنه فضيلة الشيخ أ. د.عبدالله بن عبدالعزيز آل الشيخ الذي خلف والده في إمامه الجامع وخطابته. كما عرف المجتمع سماحته مبكراً وعلى مدى عقود عبر عمله أستاذاً للفقه في كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وعبر دروسه العلميّة في الرياض والطائف ومشاركاته الإعلامية في برامج الفتوى والإرشاد، وعرفه المجتمع أيضاً من خلال عضويته في هيئة كبار العلماء وفي اللجنة الدائمة للفتوى ثم من خلال عمله نائباً لسماحة مفتي عام المملكة آنذاك الشيخ عبدالعزيز بن باز، وتجدر الإشارة إلى أن سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ هو الوحيد الذي عُيّن نائباً للمفتي العام ولم يُعيّن أحد في هذا المنصب غيره، وذلك قبل أن يصدر الأمر الملكي عام 1420هـ(1999م) بتعيينه مفتياً عاماً للمملكة العربية السعودية ورئيساً لهيئة كبار العلماء وللبحوث العلمية والإفتاء، ولم تشغله -رحمه الله- أعباء المناصب وكثرة المسؤوليات مع ثقلها عن الاستمرار في عطائه العلمي وفي مشاركاته الإعلامية النافعة.
وقد كنتُ بعد وفاة سماحته -رحمه الله- أطالع كل ما كتب عن سيرته أو عن شيء منها؛ سواء ما نشر في الصحف الرسمية أو الإلكترونية، أو ما تم تداوله عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي لا سيما ما نشر في X (تويتر سابقاً) على وجه الخصوص.
وكنت على يقين تام وأنا أطالع هذه الكتابات؛ أن ابن أخيه شيخنا أ. د.هشام بن عبدالملك بن عبدالله آل الشيخ سينشرُ ترجمة لعمه ووالده وشيخه سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ تكون هي المرجع الأول في سيرة سماحته، والعمدة فيما كُتب عنه، ولم أكن أعلم أنه قد شرع في الكتابة عن سماحة الشيخ قبل وفاته رحمه الله. لكن يقيني كان عائداً لأمرين؛ أولهما أن الشيخ أ.د.هشام بن عبدالملك قد ترجم لوالده الشيخ عبدالملك بن عبدالله، ولجده الشيخ عبدالله بن محمد، ولجد والده الشيخ محمد بن عبداللطيف، ولجدته أم عبدالملك سارة الجهيمي وضمّن هذه التراجم كتابه ملح العلم (كنت قد كتبتُ مقالاً بعنوان «قراءة في كتاب: ملح العلم» نشر في الجزيرة الثقافية، العدد 781 في 10-5-1445هـ-24-11-2023م) ولا محالة أنه سيتمُ هذا العقد البديع الذي نظمه بترجمة لعمه سماحة المفتي.
وأما ثاني الأمرين اللذين جعلاني على يقين تام؛ فهو أني منذ أن كنت طالباً في المرحلة الثانوية بمدارس الرياض وأنا أتردد بشكل مستمر على مجلس سماحة المفتي في منزله، وأجده محاطاً بأقاربه وتلاميذه وزواره، وفي كل مرة كنت أذهب فيها إلى مجلس سماحته كنت أجد الشيخ أ. د.هشام بن عبدالملك آل الشيخ جالساً بجوار عمه، وكنت ألحظ قوة العلاقة التي تربطهما ببعضهما، وألحظ حرص سماحة المفتي على ابن أخيه ومحبتهِ له، وألحظ بر الشيخ أ. د.هشام بعمه ووفائه له، والشواهد على ذلك كثيرة.
وقد نشر بالفعل الشيخ أ. د.هشام بن عبدالملك آل الشيخ ترجمة لعمه لسماحة المفتي بعد وفاته -رحمه الله- بخمسة أسابيع تقريباً؛ بعنوان «ومضات من سيرة سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء والرئيس العام للبحوث العلمية والإفتاء غفر الله له وأعلى منزلته (1362هـ-1447هـ)»، في 148 صفحة.
بدأها بمقدمة ذكر فيها أنه كان قد شرع بكتابة هذه الترجمة قبل وفاة سماحة المفتي ولم يعزم على إخراجها آنذاك لعلمه برغبته -رحمه الله- في عدم الثناء عليه أو الحديث عنه؛ وأن بعض طلابه قد حاولوا كتابة ترجمة له فلما قرئت على سماحته حذف أكثر من ثلاثة أرباعها، وأشار إلى أن سماحته قد علم من بعض طلابه عن عزمه على كتابه ترجمة له، فألح -رحمه الله- بأن يقرأ عليه ما كتب، لكنه كان يقدم له الأعذار كل مرة خوفاً من توجيهه وإلزامه بالحذف والاختصار. ثم أورد بعد ذلك اسم سماحة المفتي كاملاً ونسبه، وولادته ونشأته، وطلبه للعلم وشيوخه وتلامذته، وأعماله ومناصبه، وصفاته الخَلْقية والخُلُقية، وتعلق قلبه -رحمه الله- بالمسجد وجامع الإمام تركي بن عبدالله على وجه الخصوص، وعبادته وزهده، والأدعية المأثورة التي كان -رحمه الله- يرددها، وأورد أيضاً محبة العلماء لسماحته وتوقيرهم له، وتحدث عن علاقته بولاة الأمر، وعن برامجه ومشاركاته العلمية، وعن أولاد سماحته، وعن علاقته بوالدته وبره بها، وعن مرضه ووفاته، ثم أورد أخيراً مراثي قيلت في سماحة المفتي بعد وفاته -رحمه الله-.
وقد حوت هذه الترجمة الكثير من أخبار سماحته التي تروى لأول مرة؛ وكشفت ايضاً الكثير من جوانب سيرته -رحمه الله-. ومن أبرز ما ورد فيها أن سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ المفتي الأسبق للمملكة كان قد عيّن سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ قاضياً في نجران؛ إلا أن الشيخ عبدالعزيز طلب منه أن يعفيه من هذا التعيين لكن الشيخ محمد أصر، فاستشفع سماحة الشيخ عبدالعزيز بالأمير عبدالله بن عبدالرحمن الفيصل الذي لقبه أخوه الملك عبدالعزيز بـ»عالم آل سعود»، فكلم الملك فيصل في شأن سماحة الشيخ عبدالعزيز فأمر الملك بتعيين سماحته مدرساً في معهد إمام الدعوة، أيضاً جاء في هذه الترجمة أن أول خطبة خطبها سماحة الشيخ عبدالعزيز في الجامع الكبير (جامع الإمام تركي بن عبدالله) كانت عام 1390هـ(1970م) وكان قبل ذلك يخطب في مسجد الشيخ بحي دخنة المعروف الآن بجامع الشيخ محمد بن إبراهيم، ولعل الذي أشار بتعيين سماحة الشيخ عبدالعزيز خطيباً لجامع الإمام تركي بن عبدالله هو الأمير عبدالله بن عبدالرحمن؛ حيث صلى الجمعة مع سماحته في مسجد الشيخ بحي دخنة، وأشار على الملك فيصل أن يتولى سماحة الشيخ عبدالعزيز الخطابة في الجامع الكبير وهو ما تم، وقد عُيّن سماحته خطيباً للجامع الكبير وعمره 28 سنة وأستمر يخطب فيه الجمع والأعياد فيه حتى كانت آخر خطبة له فيه عام 1438هـ(2017م) حيث ضعف بعد ذلك صوته رحمه الله، وتولى خطابة الجامع من بعده بتناوب ابنه وابن أخيه صاحبي الفضيلة الشيخين الدكتورين عبدالله بن عبدالعزيز وهشام بن عبدالملك (كاتب الترجمة) حفظهما الله بحفظه.
كما أشار الشيخ أ. د.هشام عند حديثه عن صفات عمه سماحة الشيخ عبدالعزيز؛ إلى صلابة رأيه -رحمه الله- على الحق وقوة الحجة والثبات عليه، وذكر من الشواهد على ذلك أنهم كانوا في مناسبة وسلم على سماحته أحد الأشخاص المعروفين بانتمائهم لجماعة التبليغ، وسأل ذلك الشخص الشيخ سؤالاً يحاول من خلاله جر الشيخ إلى جواب معين يريدهُ هو، وكان معه جهاز تسجيل، فتكلم الشيخ في الجواب بالتحذير من جماعة التبليغ والابتعاد عن المشاركة معهم وتبليغ الجهات الأمنية بوجودهم أو تجمعهم، فما كان من ذلك الشخص إلا أن أغلق التسجيل وانصرف مباشرة. كذلك أشار الشيخ أ. د.هشام بن عبدالملك آل الشيخ إلى الموقف الواضح لعمه سماحة المفتي عام 1411هـ (1990م/ 1991م) في احتواء الشباب وربطهم بولاة الأمر وما يصدر عن العلماء الراسخين، وانعكس ذلك على خطبه ومواعظه وزياراته، بل كثَّف -رحمه الله- من خروجه من الإعلامي ليشارك بكلمة الحق وليربط الناس بمنهج الكتاب والسنة ومنهج سلف الأمة. كما أشار الشيخ أ. د.هشام إلى أن الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله- قد قال لشيخ عبدالله الطيار عندما زاره بعد وفاة الشيخ ابن باز بيومين «لا يصلح لمنصب المفتي العام الآن إلا الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ».
وأختم بما قاله شيخنا أ. د. هشام بن عبدالملك آل الشيخ عن علاقته بعمه سماحة المفتي؛ حيث قال «... ولدت ونشأت في بيتٍ يجمع الوالد والعم معاً، وقرأتُ على سماحة العم في المختصرات والمطولات، في الجامع والبيت، ولازمت سماحته ملازمة تامة، واستفدت كثيراً من علمه وسمته وأخلاقه الشيء الكثير، فوالله الذي لا إله إلا هو ما بي من علمٍ ولا خيرٍ إلا بفضل الله تعالى وحده، ثم بفضل الوالدين والعم، فهو معلمي وقرة عيني وشقيق والدي، وأبي من الرضاع، ومذ فطنت على الدنيا وأنا اتنقل بين بيت سماحته وبين بيت أخوالي، وسماحة العم يتابع مسيرتي العلمية ويحرص عليِّ حرصه على أبنائه...».
والحق أن هذه الترجمة ليست تدوين لأخبار وسيرة سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ -رحمه الله- فقط؛ بل إنها أيضاً توثيق لجزء مهم من تاريخ الحياة العلميّة في الرياض. رحم الله سماحة المفتي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ رحمه الأبرار وغفر له وأعلى منزلته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وجزى الله شيخنا أ. د.هشام بن عبدالملك آل الشيخ خير الجزاء على وفائه لعمه وبره به في حياته وبعد مماته، وبارك في عمره وعمله وذريته.
وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين.
** **
- عبدالعزيز بن صالح الدغيثر
@asasd004