د. سطام بن عبدالله آل سعد
رغم ما تمتلكه القرى التراثية في المملكة العربية السعودية من عمقٍ حضاري وثراءٍ عمراني وثقافي فريد، فإن حضورها في المشهد التنموي لا يزال أقل من إمكاناتها الحقيقية. فبينما تستعد المملكة لاستضافة فعاليات عالمية كبرى مثل كأس آسيا 2027، وإكسبو 2030، وكأس العالم 2034، تتجه الأنظار إلى المدن الحديثة والبنى المتطورة، في حين تبقى القرى التراثية خارج دائرة الضوء، رغم قدرتها على تقديم تجربة إنسانية وسياحية تُجسّد الهوية الوطنية وتُعبّر عن روح المكان الأولى.
المشكلة ليست في نقص المقومات، بل في غياب الرؤية التكاملية التي تربط بين مشاريع التنمية السياحية والفعاليات الوطنية الكبرى. فهذه القرى التراثية غنية بالأصالة والجمال، لكنها تحتاج إلى استراتيجية واضحة تدمجها ضمن خريطة الفعاليات والثقافة والسياحة، وتجعلها عنصرًا أساسيًا في سرد القصة السعودية للعالم. فهي تحتضن ملامح العمارة النجدية أو الحجازية أو الجنوبية والحساوية، وتحفظ في تفاصيلها ذاكرة الإنسان السعودي، لكنها ما زالت تُقدَّم كماضٍ يُزار لا كمستقبلٍ يُستثمر.
وبناءً على الدراسة التي أجريتها حول تطوير بعض القرى التراثية في المملكة، اعتمدتُ منهجية علمية مستندة على الاشتراطات والمعايير العالمية والوطنية المعتمدة لدى لجنة التراث العالمي باليونسكو، لتصنيف القرى ذات القيمة الثقافية والعمرانية. وقد شمل التحليل خمسة معايير رئيسة هي: الاجتماعي، التاريخي والتراثي، البيئي، العمراني والمعماري، والاقتصادي، بوصفها الأبعاد التي تربط بين الهوية المحلية ومفاهيم التنمية المستدامة. وبعد تطبيق التحليل العاملي (لتحديد مدى ترابط هذه المؤشرات ببعضها، ولمعرفة أيها أكثر تأثيرًا وأهمية في تصنيف القرى التراثية)، تبيّن أن العديد من القرى التراثية السعودية تمتلك مقومات تؤهلها لأن تكون ضمن الفئة الأولى من القرى القادرة على تحقيق تنمية اقتصادية وثقافية وسياحية متكاملة، إذا ما تم تفعيلها ضمن رؤية 2030.
لكن التحديات ما زالت قائمة؛ فضعف التنسيق بين الجهات المعنية بالتراث والثقافة والسياحة أدى إلى تشتت الجهود، وغياب التمويل الموجّه لهذه القرى أعاق تطوير البنية التحتية والخدمات الذكية التي تحوّل الزيارة إلى تجربة متكاملة، كما أن التسويق لا يزال قاصرًا في إبراز الهوية التراثية كجزء من التجربة السياحية السعودية الحديثة، في حين بقي دور المجتمع المحلي محدودًا، رغم أن التجارب الدولية - مثل اليابان ورومانيا والصين - أثبتت أن إشراك السكان هو الضامن الحقيقي لاستدامة أي مشروع تراثي.
إن تجاوز هذه العقبات يتطلب مقاربة جديدة تُعيد صياغة العلاقة بين التراث والاقتصاد.
وهنا يبرز مفهوم الاقتصاد البنفسجي كأحد الاتجاهات الحديثة في علم الاقتصاد، إذ يسعى إلى إضفاء البعد الإنساني على التنمية من خلال دمج الثقافة والهوية في النشاط الاقتصادي، وجعل القيم والمعنى جزءًا من عملية الإنتاج، وذلك استنادًا إلى الميثاق الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي أقرّته الأمم المتحدة عام 1966.
وقد طُرح هذا المفهوم لأول مرة في فرنسا عام 2011، خلال المنتدى الدولي الأول للاقتصاد البنفسجي الذي أُقيم برعاية منظمة اليونسكو والبرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية، ليشكّل منذ ذلك الحين دعوة إلى اقتصادٍ يُوازن بين الربح المادي والثراء الثقافي والرمزي.
إنّ النظرة إلى القرى التراثية كوجهاتٍ سياحيةٍ قد تغيّرت، لتصبح منصات إنتاجٍ إبداعي يمكن أن تولّد القيمة من الجمال والرمز والحكاية والانتماء. فكل منتجٍ حرفي، أو تصميمٍ تقليدي، أو تجربةٍ محلية، يحمل قصةً، وكل قصةٍ يمكن أن تتحول إلى موردٍ اقتصادي يعزّز الاستدامة الثقافية والاجتماعية في آنٍ واحد.
ولكي يتحقق ذلك، يجب دمج القرى التراثية ضمن خريطة الفعاليات الكبرى، بحيث تكون جزءًا من التجربة السياحية للمملكة لا هامشًا لها، مع تبنّي مفهوم صناعة المكان كمنهجٍ للتخطيط والتنمية، يعيد تشكيل الفضاء التراثي بوصفه بيئةً حيةً للإبداع والإنتاج. ويُسهم هذا المفهوم في تحويل القرى التراثية من مواقع للزيارة إلى وجهات نابضة بالحياة ترتبط بالاقتصاد المحلي والهوية الثقافية.
كما ينبغي تمكين المجتمع المحلي عبر جمعياتٍ تعاونية تُدير الأنشطة الثقافية والحرفية وتربطها بالطلب السياحي المحلي والعالمي، وتمكين المؤسسات التعليمية من تبنّي القرى التراثية كمختبرات ميدانية للبحث والتطبيق في مجالات العمارة المستدامة والحرف التقليدية. أما المنصات الرقمية، فيمكن أن تقدم هذه القرى للعالم عبر تقنيات الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي، بما يسمح بتجربةٍ افتراضية تمهّد لزيارةٍ واقعية، تُجسّد تفاعل الإنسان مع المكان في أبهى صوره.
وحين تتبنى الجهات المعنية بالتراث مفهوم الاقتصاد البنفسجي، فإنها تُحوّل التراث إلى منظومة اقتصادية إنتاجية متكاملة تربط بين الأصالة والتنمية، والجمال والاستثمار، ليصبح التراث موردًا، والهوية اقتصادًا، والمكان حكايةً تُروى للعالم بلغةٍ حديثة تجمع بين العمق والابتكار.