ليلى أمين السيف
حين يرحل الوالدان نشعر أن السقف الذي كان يظلّلنا قد تهدّم، وأن الدفء الذي كنّا نعود إليه مهما ابتعدنا.. قد انطفأ.
لا يعود في الوجود من يحبك حبًا نقيًا غريزيًا لا تشوبه مصلحة، مثل حب الأب والأم. فتصبح الذكريات ملجأك الوحيد، والعين تبحث في المارّين عن ملامحهم، والقلب يشتاق إلى صوتٍ لن يُسمع بعد اليوم.
لكننا -رغم وجع الفقد- لا نغرق. فنحن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أمة الرحمة والمغفرة، أمة الوفاء بعد الرحيل. نتعلّم من نبينا الذي فتح مكة بقلبٍ يفيض حبًا وغفرانًا، وقال لمن آذوه: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»
فلماذا لا نغفر نحن؟ ولماذا لا نملأ قلوبنا حبًا للناس، ووصلاً لمن بقوا، ووفاءً لأرواح من رحلوا؟
أعظم ما نقدمه لوالدينا بعد موتهم، أن نكون امتدادًا طيبًا لهم، أن نكون صدقةً جارية تمشي على الأرض. نزرع ما كانوا يحبون، نصل من كانوا يكرمون، نسامح كما علمونا، ونحمل في قلوبنا ميراثهم النقي من الدعاء والصفح.
فلنقل لكل من حولنا: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»
نقولها حبًا لا ضعفًا، وسماحةً لا نسيانًا، ووفاءً لأبٍ وأمٍّ ربَّيانا على النقاء.
{وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنفال: 75).
سامحناكم وأحببناكم، لا لشيء، بل لأننا تربّينا على خُلق من عرف الله حق المعرفة، وغرس فينا حبّ الخير قبل الرحيل. وما دمنا أحياء، فسنمضي حاملين رسالتهم؛ بقلوب دافئة لا تعرف الكِبر ولا الحقد.
فالأخوة هم الامتداد الطبيعي لحب الوالدين، ذلك الحبل الخفي الذي لا تقطعه المسافات، ولا تغيّره الخلافات، ولا تُطفئه الظروف.
فيهم نرى ظل الأب، ونشم عبق الأم، وكأن كل لقاءٍ بهم استعادةٌ لقطعةٍ من الجنة.
الأخوة نعمة لا تُعوّض؛ ليس لأنهم فقط «إخوتك»، بل لأنهم قطعة من أبٍ وأمٍ لن يعودا. ومن أعظم صور البرّ بعد وفاتهما، أن نحسن إلى إخوتنا ونصل رحمنا؛ فذلك يُفرح والدينا في قبريهما، ويكون صدقةً جارية لهما، وامتدادًا لخيرٍ لم ينقطع.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} (الطور:21)
وهي من أعظم البشائر؛ إذ يرفع الله الأدنى إلى منزلة الأعلى بفضل فيرفع الأبناء إلى درجات آبائهم في الجنة لتقرَّ أعينهم وتكتمل سعادتهم، دون أن يُنقص من أجورهم شيئًا.
اللهم اجعلنا وإياكم، ومن نحب، من أهل الجنة، وارحم والدينا كما ربَّونا صغارًا،
وبلّغهم منا السلام والدعاء، وألحقنا بهم غير مفتونين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
** **
- كاتبة يمنية مقيمة في السويد