أ.د.عثمان بن صالح العامر
أعتذر أشد الاعتذاز لطلابي وطالباتي الذين درستهم مادة (المذاهب الفكرية المعاصرة) أو مقرر (الفلسفة) بعد أن تم اعتماد برنامج الدراسات العليا في جامعتي الموقرة (جامعة حائل)، وذلك لأنني كنت أقول لهم إن (الفردانية): مذهب فكري غربي غريب عنَّا (ديانةً وعادةً وعرفاً)، ويعني باختصار: التمحور حول الذات، فللأنا المتضخمة عند صاحب هذه النزعة الشريرة قيمة ذاتية مستقلة. وكنت في سياق الذم أورد أسماء من تبنوا هذا المذهب من فلاسفة الغرب أمثال: آدم سميث الرأسمالي، جون لوك (التربوي)، وجون ستيوارت ميل، وفي المقابل اثني على مواقف المنتقدين لهذه النزعة الأنانية عند الإنسان أمثال: تايلور، ودوركايم. وغيرهما، وأختم حديثي عن هذا الاتجاه التفكيكي للمجتمعات فضلاً عن الأسر، بل المفسد بين الزوج وزوجته، والابن ووالديه، بموقف الإسلام من الفردية والجماعية، مؤكداً أن هذا الدين العظيم الذين خصَّ الرب سبحانه وتعالى أتباعه بأنهم (أمة وسط) هو وسط في العلاقة بين الجماعية والفردية، ومتى تعارضت المصالح الذاتية مع منفعة عامة قدمت الثانية على الأولى، فهو وإن كانت المسؤولية فيه فردية إلا أنه لا يعفي الجماعة من المؤاخذة واللوم، ولذا لا مكان للفردانية لدينا بنصوص القرآن والسنة سواء أكان هذا الفرد المنتمي للجماعة محل الإجلال والتقدير والاحترام حياً يمشى على الأرض أو أنه في دار البرزخ ينتظر البعث، وخصوصاً الوالدين اللذين أكدت النصوص الشرعية حقهما بعد رحيلهما من هذه الدار، فضلاً عن بيان واجبنا نحوهما إذا كانا حيين ، فلهما قضاء من الله واجب الوفاء.
وكم هو رائع عندما يعلِّق أحد الطلاب أو الطالبات على ما ورد أعلاه من أننا في المملكة العربية السعودية بمنأى عن هذا التوجه، فنحن مجتمع متراص اللبنات، قوي الأساس، يعلي الروابط العائلية، والولاء عنده مقرون بالجماعة، ويهمه ما يُقال عنه حتى بعد رحليه من الدنيا، فالواحد منَّا لديه قناعة تامة بأنه من نسيج هذا المجتمع، ولا يمكن أن يعيش فرداً في وسط بيئة إسلامية وسطية صحيحة تعرف للوالدين حقهما، وللجار، ولذوي الرحم، وللصديق، وللولد، ولـ....، حتى الذمي المعاهد، حقوقهم الثابتة شرعاً، والدائرة تتسع وتضيق حسب الروابط الاجتماعية التي تحيط بأي منَّا.
نعم اعتذر لأن هذه النزعة اللا إنسانية لم تعد مجرد مذهب فكري وافد، ولا من قال بها وتبنى منهجها فيلسوف غربي ربما لا يعرف من الإسلام الذي ندين الله به إلا اسمه، بل لبست اليوم ثوباً جديداً لم يكن هو ثوبها من قبل، وتلبسها وقال بها من هو محسوب علينا، للأسف الشديد، واعتذاري لهم لأنني لما أتفطَّن إلى ما هو كائن اليوم، واستشرف المستقبل برؤية البصير العارف للتحولات المجتمعية والفكرية في عصر العولمة، لم أقل لهؤلاء الشباب والفتيات ربما سيأتي عليكم زمن يتبنى هذا المذهب ويروِّج له ويتجرأ على الإعلان عنه عبر مواقع التواصل الاجتماعي قومٌ من بني جلدتنا، ويتحدثون بلساننا، ويستشهدون في بعض مقابلاتهم، وأقوالهم وكتاباتهم بقال الله عزَّ وجلَّ وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، فإياكم تصديق ما قالوا والاقتناع به.
أعتذر لأننا اليوم في زمن صار البعض من شبابنا وفتياتنا إلى الفردانية أقرب جراء شيوع هذه الأجهزة التي جعلت شريحة منا يعيشون الفردانية واقعاً جاثماً على صدورهم وهم لا يشعرون. وأخشى ما أخشاه أن نتحول في قادم الأيام من النمط الجماعي إلى الفردانية -وإن كنا لا نعرفها كمذهب فلسفي- نتيجة عوامل وأسباب عديدة -لا تتسع مساحة المقال للاستطراد فيها، والحديث عنها- فنصبح مع مرور الأيام مجتمعاً بلا روح، ومع ذلك لم اتنبأ بما هو الحال اليوم، واحذِّر من أن تقودنا التقنية إلى جمود المشاعر، وانقطاع الأواصل، وعقوق الوالدين.
اعتذر ليس لأنني على خطأ في بيان حقيقة المذهب وحاله، ولكنني لم أحذِّر من أن يكون أي من هؤلاء الذين كانوا على مقاعد الدرس والتحصيل يستمعون لما أقول رقماً فاعلاً في منظومة الفردانيين الجدد الذين قد يقودهم التنافس الشرس، والمادية الصرفة، والشهرة المزعومة، والأضواء المزيَّفة من تلابيبهم نحو الانفصال التام عن مجتمعهم المحيط بهم، والقريب منهم، ودخول نادي العقوق الأسري أو المجتمعي أو الوطني ولو بالقول، وركوب تيار الفردانية الذي تنطبق عليه المقولة الشهيرة (أنا ومن بعدي الطوفان). رزقنا الله وإياكم حسن الختام، دمتم بخير، وإلى لقاء، والسلام.