إعداد - عبدالله عبدالرحمن الخفاجي:
يولد الفنان العربي في قلب معادلة معقدة؛ صراعٌ يومي يخوضه ليحافظ على شرارة إبداعه وسط واقع لا يمنحه دائمًا ما يستحق. يبدع بروح متّقدة، لكنه يقاوم نقص الدعم، وتذبذب الوعي المجتمعي، وتحديات تسويق الفن كمنتج ثقافي واقتصادي، ومع ذلك يظل متمسكًا بالخط الأول الذي رسمه، وباللون الذي اختاره، وكأنه يصرّ على القول: الإبداع ليس رفاهية... بل نجاة.
ومن هذه المعادلة المرهفة بين ألم الاستمرار ومتعة الخلق، يولد الفن العربي بملامحه الأكثر عمقًا وإنسانية. فمنذ زمن بعيد أدرك الإنسان أن ملامسة الجمال ليست مجرد ترف، بل ضرورة تخفف وطأة الحياة وتعيد ترتيب الداخل، فالفن ليس نشاطًا ذهنيًا منعزلًا، بل نهرٌ دافئ يتسلل إلى الروح ليهذّبها ويوقظ قدرة الإنسان على التأمل والإنتاج، ويمنحه نافذة جديدة يرى من خلالها ذاته وعالمه بصفاء أكبر.
وحين نعود إلى الجذور، تتبدّى الدهشة؛ فالإرث الفني العربي ليس وليد لحظة حديثة، بل ممتد في آلاف السنين، منقوشًا على صخور الجزيرة العربية والشام والعراق ومصر.
لم يكن الفنان القديم ناقلًا للواقع بقدر ما كان مفسّرًا لروحه، يختصر العالم في رموز وإيقاعات بصرية تكشف عن حس تجريدي سبق مدارس الفن الحديثة. وهذا وحده يثبت أن منطقتنا لم تكن يومًا متلقية للجمال، بل صانعة له.
ومع امتداد الزمن، ظلّ الفن مرآة الإنسان، فالعمل التشكيلي العربي اليوم لا يكتفي بتصوير البيئة، بل يغوص في العمق الوجداني، في ذاكرة الفرد والجماعة، في العلاقة بين الإنسان وفضائه، في أسئلة الهوية والوجود وصراعهما المستمر. إنه وثيقة غير مكتوبة تستعيد من خلالها الأمة حكايتها، وتقرأ واقعها بطريقتها الخاصة.
وربما يُطرح سؤال يثير الفضول: هل يقدر الفن على تحقيق ما تعجز عنه الدبلوماسية؟
الفن، بقوته الناعمة، يفتح أبوابًا لا تفتحها الخطابات الرسمية؛ يكسر الحواجز، يبني جسور التفاهم، ويترك أثره في الوعي الجمعي بلا مجهود. الدول التي تستثمر في فنونها لا تعرض أعمالًا فنية فحسب، بل تقدم نفسها للعالم عبر لغة حضارية تتجاوز الحدود. هنا يتداخل الفن مع التنمية المستدامة، فيُسهم في الصحة النفسية، ويدعم التعليم والإبداع، ويخلق فرصًا اقتصادية، ويجعل المدن أكثر تناغمًا وإنسانية.
لكن خلف هذا الأثر العميق، يقف الفنان العربي في مواجهة صعوبات كثيرة، يعيش شغفه بشجاعة، لكنه يصطدم بغياب منظومات الدعم، وبصعوبة تحويل الفن إلى مهنة مستقرة، وبوعي مجتمعي لا يزال في طور التشكّل، ومع ذلك لا يتراجع؛ فالفن بالنسبة له ليس خيارًا، بل ضرورة وجودية.
وفي الجانب الآخر، نجد المجتمع العربي يستعيد علاقته بالفن تدريجيًا، رغم أن زيارة المتاحف لا تزال عادة غير راسخة.
الفن يحتاج أن يكون في الشارع كما هو في الصالة؛ في المدرسة كما في البيت؛ في الحوار اليومي كما في الطقوس الثقافية. فقط عندها يصبح جزءًا من نسيج الحياة لا حدثًا عابرًا.
أما حين نقترب من الفن بوصفه استثمارًا، نكتشف عالمًا آخر، فاللوحة ليست مجرد جمال بصري، بل أصل مالي تزداد قيمته مع الزمن. بدأ هذا المفهوم يجد طريقه إلى العالم العربي، لكنه يحتاج إلى شفافية ومنصات تقييم وأرشفة تضمن بناء سوق فنية ناضجة وواضحة.
ولكي نصل إلى نهضة فنية حقيقية، علينا البدء من التعليم، من زرع الذائقة في نفوس الأطفال، من بناء متاحف ومساحات ثقافية تنبض بالحياة، من دعم الفنانين بالمنح والفرص، ومن إقامة شراكات واعية بين الفن والقطاع الخاص. هذه الخطوات ليست رفاهية، بل أساس لبناء مجتمع يرى في الفن قيمة وجودية.
وهكذا، يبدو الفن العربي اليوم امتدادًا لجذور ضاربة في القدم، ونافذة واسعة نحو مستقبل أكثر رقيًا ووعيًا. إنه مساحة للبوح، وأداة لفهم الذات، وقوة ناعمة تعيد تشكيل حضورنا الثقافي، ومع اتساع الحراك الفني في المنطقة، يقف الفن العربي على أعتاب مرحلة جديدة، يصبح فيها الإبداع ردًا على الصراع، وتصبح فيها التجربة الفنية جسرًا بين الماضي والمستقبل، وبين الإنسان والعالم.
** **
تويتر: AL_KHAFAJII