جانبي فروقة
بعد أكثر من عقد من الحرب والدمار والعقوبات، تدخل سوريا اليوم مرحلةً غير مسبوقة من التحدي الوجودي. لم تعد المسألة مسألة بقاء فحسب، بل مسألة كيفية البقاء بحكمة فالأمم لا تنهض فقط بالإعمار بل بالوعي الذي يقود هذا الإعمار.
إن القيادة التي تريد أن تؤسس لمستقبل مستدام تحتاج إلى قواعد تتجاوز الشعارات والخطب، إلى قوانين صامتة لكنها فاعلة، أثبتت عبر التاريخ أنها تصنع القادة الذين ينتصرون باستمرار.
هناك عشرة قوانين هادئة لبناء نهضة سورية ذكية والتي لو تبنتها القيادة السورية كمنهج إداري وفكري ستضمن الانتقال السلس من فلسفة إدارة الأزمة إلى صناعة النهضة.
قانون مورفي Murphy»s Law « كل ما يمكن أن يسوء، سيسوء» هذا القانون سيساعد في بناء أنظمة تصمد أمام الفوضى، فقد عاش السوريون كل أشكال السوء الممكنة لكن القائد الحكيم لا ينتظر العاصفة ليُفكّر بل يبني نظامًا لا ينهار معها، حيث ينبغي أن تعتمد الدولة مفهوم المرونة المؤسساتية أي بناء مؤسسات قادرة على العمل في أسوأ الظروف ويتحقق ذلك عبر تطبيق اللامركزية الذكية التي تسمح للمحافظات باتخاذ قرارات اقتصادية محلية والتحول الرقمي للخدمات الحكومية، بحيث تبقى تعمل حتى في الأزمات وتبني خطط طوارئ واقعية في الطاقة، والمياه، والأمن الغذائي فسوريا التي تبني نظامًا يقاوم الانقطاع والشلل، هي سوريا التي لن تسقط مجددًا مهما كانت الأزمات.
قانون كيدلين Kidlin»s Law» إذا كتبت المشكلة بوضوح، فقد حللت نصفها» وهذا القانون يركز على الوضوح بدل الغموض فالغموض الإداري هو العدو الخفي لأي نهضة وكثير من القرارات تُتخذ دون أهداف محددة أو معايير للنجاح والقيادة القوية تكتب خطتها وتنشرها وتُحاسَب عليها ومن هنا تبدأ الشفافية التي تُعيد الثقة بين المواطن والدولة فالوضوح ليس ترفًا تنظيميًا بل هو وقود التقدم.
قانون غيلبرت Gilbert»s Law «عندما تتولى مهمة فأنت تصبح مسؤولاً عن نتائجها» وهذا القانون يدعو إلى تحمّل المسؤولية بدل إلقاء اللوم على الآخرين فالقائد الذي يلوم الآخرين يُضعف نفسه، أما الذي يتحمّل المسؤولية فيكسب الاحترام، وقد آن الأوان لأن تُبنى في سوريا ثقافة الاعتراف بالخطأ كوسيلة للإصلاح فعندما تُعلَن نتائج المشاريع علنًا ويُكشف حجم الإنفاق وأسباب التعثرو تتحوّل المحاسبة من أداة خوف إلى أداة تحسين؛ فالثقة لا تُطلب بالكلمات بل تُزرع بالفعل والفعل يبدأ من القمة.
قانون ويلسون Wilson»s Law «ركّز على المعرفة والنمو، والمال سيتبع» وخير مثال تلك البلدان التي نهضت من تحت الركام مثل اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية وسنغافورة حيث إنها لم تفعل ذلك بالمال، بل بالمعرفة ففي سوريا رأس المال الحقيقي هو الإنسان السوري، وإنشاء جامعات تقنية حديثة وحاضنات ابتكار وبرامج تدريب مهني مرتبطة بسوق العمل سيحوّل الجيل الجديد من طالبي وظائف إلى صانعي اقتصاد وطني؛ فالثروة ليست بما تملكه الدولة بل بما تعرف كيف تنتجه.
قانون فولكلاند Falkland»s Law «إذا لم يكن عليك اتخاذ القرار الآن، فلا تتخذه» فهو يزكي على حكمة التوقيت والقيادة الحكيمة تدرك أن العجلة في بعض القرارات أخطر من التأخير وسوريا بحاجة إلى سياسة الهدوء الاستراتيجي في علاقاتها الخارجية والاقتصادية فالتحالفات التي تُبنى بسرعة تنهار بسرعة أما تلك التي تُبنى على دراسة طويلة وثقة متبادلة فتصمد عقودًا لذلك فإن اختيار اللحظة المناسبة للإصلاح أو التغيير أصعب من الإصلاح نفسه لكنه سرّ الاستقرار الطويل.
قانون باركنسون Parkinson»s Law «كل مهمة ستستهلك من الوقت ما يُعطى لها» فتأخر المشاريع الحكومية أو تعطيل الإصلاحات ليس دائمًا بسبب قلة الموارد بل لأن الزمن مفتوح بلا انضباط ويجب أن تتبنى سوريا ثقافة الجدول الزمني الحتمي حيث يكون لكل مشروع بداية ونهاية معلومتان وكل تأخير له تكلفة واضحة، إن الوقت في عالم التنمية ليس حيادياً بل عملة وطنية.
قانون بيتر Peter»s Law «يترقّى الأفراد حتى يصلوا إلى مستوى عدم كفاءتهم» والذي يوضح أن نهاية الكفاءة تكون عند الترقية العشوائية، وهذا القانون يفسّر لماذا تنهار بعض الإدارات رغم وفرة الكفاءات فيها.
وفي سوريا كما في كثير من الدول النامية يترقّى الموظف بالمحاباة أو الأقدمية لا بالإنجاز فالإصلاح الحقيقي يبدأ من بناء نظام ترقيات ومكافآت يعتمد الأداء الفعلي والمعرفة التخصصية والقيادة ليست مكافأة بل مسؤولية علمية وأخلاقية.
قانون أوكام Ockham»s Razor «الحل الأبسط غالبًا هو الأفضل» فالإعمار لا يعني مشاريع ضخمة دائمًا، وفي كثير من الأحيان نجد الحلول الصغيرة المتكررة أكثر فاعلية من المشاريع العملاقة فاعتماد الطاقة الشمسية المحلية وتشجيع المشاريع العائلية الإنتاجية وتحويل القرى إلى وحدات اقتصادية مكتفية ذاتيًا كلها أمثلة على البساطة الذكية والقاعدة هنا أن التعقيد يُكلف والبساطة تُثمر.
قانون ميكيافيلي الواقعي Machiavelli»s Realistic Law «من يريد الإصلاح، عليه أن يستعد لمواجهة من خسروا امتيازاتهم» فالإصلاح يخلق أعداءً من المستفيدين من الفساد والإصلاح في سوريا لن يكون رحلة نزيهة وكل تغيير حقيقي سيصطدم بمصالح مترسخة لكن الذكاء هنا في إدارة المقاومة لا مواجهتها أي كسب جزء من القوى التقليدية عبر إشراكها تدريجيًا في نموذج جديد أكثر شفافية وعدلاً؛ فالإصلاح الشجاع هو الذي يجمع لا الذي يقصي.
قانون ديمينغ Deming»s Law «ما لا يُقاس، لا يمكن تطويره» يحتاج كل إصلاح في سوريا إلى أداة قياس دقيقة وخلق مؤشرات للوظائف ونسبة تنفيذ المشاريع وانخفاض تكاليف الفساد فبدون مؤشرات أداء حقيقية تبقى الخطط شعارات، ويجب أن تُنشأ هيئة وطنية للمراقبة والبيانات تكون مستقلة وترفع تقاريرها للرأي العام فالشفافية لا تُضعف الدولة بل تحصّنها من الداخل.
إن تبنّي هذه القوانين العشرة الهادئة سيمكن سوريا من الانتقال من ثقافة الصمود إلى فلسفة النهضة وهي توفر خارطة طريق نحو دولة ذكية واقعية تعرف متى تُسرع ومتى تتأنى متى تتحدث ومتى تعمل؛ فسوريا تملك طاقة بشرية وثقافية هائلة لكنها بحاجة إلى هندسة فكرية جديدة تُحوّل الدروس المريرة إلى نهج مستقبلي؛ فمورفي يعلّمنا الاستعداد، وكيدلين يدعو للوضوح، وغيلبرت يغرس المسؤولية، وويلسون يُقدّس المعرفة، وفولكلاند يُعلّم الصبر، ثم يأتي باركنسون لينظم الوقت، وبيتر ليمنع الترهل، وأوكام ليُبسط الحلول، وميكيافيلي ليذكّرنا بجرأة الإصلاح، وأخيرًا ديمينغ ليجعل التقدم قابلًا للقياس.
إن سوريا التي تُعيد تعريف القيادة بهذه القوانين، ستتحوّل من بلد ينجو بالحد الأدنى إلى وطنٍ ينهض بالحد الأعلى من الوعي والنهضة ليست حلمًا بعيدًا بل فنّ تطبيق القوانين الصحيحة في الوقت الصحيح وهذه بلا شك هي اللغة التي تفهمها الشعوب التي قررت أن تبدأ من جديد.