سليم السوطاني
بدأتْ فكرة عنوان المقالة تشتعل في رأسي منذ قرأت فكرة الناقد الكبير محمد مندور، التي دعا إليها في زمنه، في كتابه «في الميزان الجديد»: «الأدب المهموس». ودارت معارك نقدية طاحنة في ذلك الوقت حول هذه الفكرة، وعارضها بعض النقاد الكبار في ذلك الزمن.
ذهبت بفكري وتأملي إلى هذا الزمن، من ناحية مسابقة فن الإلقاء، ولا سيّما إلقاء الشعر، التي تدور داخل مدارس التعليم؛ خصوصاً في المرحلة الابتدائية.
حقيقة لم أستسغ هذا الإلقاء، الذي يعتمد على نبرة الصوت العالية في غالبية الإلقاء، ولا سيما أننا نعيش في عصر تساعدنا فيه وسائل التقنية والصوتيات، التي نستطيع من خلالها إضافة مؤثرات وخلفيات صوتية إلى الإلقاء، ونستطيع إخراج إلقاء مؤثر ومعبر عن المعنى.
أرى الإلقاء التقليدي، الذي ما يزال يُدرَّب عليه التلامذة داخل المدارس، إلقاء مزعجًا، يعتمد على تجهم الوجه، والمد والصراخ، من دون حاجة يفرضها إحساسُ تمثُّلِ القصيدة! وأتساءل متعجبًا، عندما أرى مثل هذا الإلقاء أثناء سير المسابقة: «كم قضى هذا الطفل من ساعات في التدريب على هذا الأداء»؟ وأقول بيني وبين نفسي: «أعان الله حباله الصوتية، قد تكون خرجت عن مسارها الطبيعي وتمددت»!
من الجميل أن يمرَّ على سماعي توجّه بعض الذين امتهنوا أداءَ إلقاءِ الأبيات الشعرية عبر مواقع التواصل، بإلقاء أبيات القصيدة بصوت شفيف، ونبرة تميل إلى الهمس، فتتحوّل الكلمات إلى موسيقى تتهادى إلى مسامعنا بهدوء ورقة وعذوبة، فينتقل إحساس المؤدي إلى أرواحنا، ونحس ونشعر بكلمات النص المؤدّى.
ربما سيختلف معي من يفضل الطريقة التقليدية في الإلقاء، التي تعتمد على قوة نبرة الصوت، وأحترم هذا الاختلاف، لكن هذه دعوة وتجربة: «الإلقاء المهموس» لدى هؤلاء الأطفال، الذين تعد أصواتهم، في الأساس، مناسبة للتغريد، والانسيابية كخرير ماء يتدفق في جدول.
من وجهة نظري ليس من الحكمة أن نعوّد أبناءنا على الصوت العالي، وربما من كثرة التدريب تحدث عند الطفل مشكلة فيما يخص صوته، وتكون وتيرة صوته دائمًا جهورية تصل إلى حد الإزعاج.
وبتدريبه على الإلقاء الهامس فرصة له هو نفسه ليتذوق النص الذي يقرؤه، ويتعرف أسلوب النبر والتنغيم في إلقائه، فيعطي كل حرف حقه، وكل كلمة رونقها وكل عبارة مؤثراتها، فيتأثر فيؤثر، ويستمتع ويمتع، بلا صخب ولا عناء ولا تكلف.
إن المبالغة في أي فن قد لا تكون حسنة، والاستمرار على وتيرة واحدة وعدم التغيير والتحديث تعد رتابة منفرة لهذا الفن.
همسة:
«سيؤول حال العالم إلى همس…».
_ ت. إس. إليوت