د. عبدالحليم موسى
يبدو أن التاريخ لا يكتب سير العظماء بأحبار الرخاء، بل بخطوط من الجهد والانكسار، وأن العظمة لا تولد في أحضان القبول، بل في قسوة الرفض؛ وتبرز تجربة الملياردير «جاك ما» مؤسس مجموعة «علي بابا» بوصفها إحدى أكثر القصص الإنسانية صدقاً في التعبير عن روح الإنسان الذي يرفض الهزيمة، إنّها ليست فقط حكاية صعود رجل من الفقر إلى القمة، بل سيرة فلسفية عن معنى الفشل وضرورة الإصرار.
يذكر «جاك ما» أن جامعة هارفارد رفضت طلبه للالتحاق بها عشر المرات، لكنه كان يبتسم في كل مرة، وكأنّه يرى في الرفض نبوءة مبكرة تدعوه لصناعة طريق خاص، لم تكن تلك الهزائم مجرد حوادث عرضية، بل محطات تكوينية جعلته يدرك أن الإنسان لا يُقاس بما يمنحه الآخرون، بل بما يمنحه لنفسه من إصرار ومعنى. وهنا تتجلى فلسفته الأولى والتي تتمثل في أن الفشل ليس مضاداً للنجاح، بل شرط له، فمن لم يختبر الرفض، لم يختبر ذاته بعد؛ فالرفض في منظور «جاك ما» ليس نفياً، بل تأكيد على أنك تسير في طريق لم يُمهد بعد.
حين أسس «جاك ما» شركة علي بابا في العام 1999 من شقته الصغيرة في مدينة هانغتشو، لم يكن يملك رأسمالاً كبيراً، ولا دعماً حكومياً، بل كان يمتلك إيماناً راسخاً بأنّ المستقبل لمن يجرؤ على الحلم، فالفكرة التي انطلقت من ضيق الإمكان تحولت إلى أفق مفتوح استطاع ربط ملايين البائعين والمشترين في الصين والعالم، لكنه لم يكن يرى شركته مشروعاً تجارياً فقط، بل بياناً وجودياً بأنّ النجاح محصور في مناهج الجامعات المرموقة.
لقد كان الفشل دائماً معملاً سرياً لولادة النجاح، ومختبراً تصهر فيه الإرادة حتى تبرق، فهذا العالم توماس إديسون مخترع المصباح، الذي أطفأ الظلام بنور الكهرباء، إذ يعترف بأنه لم يفشل ألف مرة، بل اكتشف ألف طريق قاده إلى النور؛ فالفشل عنده لم يكن نقيض النجاح، بل شرطاً ضرورياً له؛ فكما لا يتكوّن الألماس إلا تحت ضغط هائل، لا يتبلور الإبداع إلا في رحم المعاناة؛ كذلك كان «جاك ما» حين تلقى عشرات الرفض من الجامعات والشركات، فحوّل انكساراته إلى طاقة بحث عن طريق آخر، كلاهما آمن بأنّ الخطأ ليس سقوطاً في الوحل، بل خطوة أولى نحو اليقظة، وهكذا تتجلى الحكمة الكبرى في معادلة الحياة، فمن رحم الإخفاق يولد الوعي، ومن رماد الفشل ينبعث الإنسان من جديد.
لقد عرف ستيف جوبز، مؤسس شركة آبل، أن السقوط لا يعني النهايات، بل بداية أخرى أكثر نضوجاً؛ وحين طُرد من الشركة التي أنشأها بيديه، لم يلعن القدر، بل عاد إلى ذاته ليتأمل معنى الخلق من جديد، وكانت تلك اللحظة أشبه بانطفاء نجمة لتولد مجرة جديدة، فخلال مغادرته آبل ، أسس شركتي NeXT وPixar، وكأنّه كان يعيد تشكيل الكون من حوله وفق رؤيته الجمالية الخاصة، ثم عاد إلى شركته الأولى لا كالعائد إلى بيت قديم، بل كالفيلسوف الذي اكتشف المعنى بعد التيه، لقد أثبت جوبز أن السقوط ليس سقوطاً في الفراغ، بل عودة إلى مركز الذات؛ وأنّ من يعرف كيف ينهض من رماده، لا يخشى الحريق.
تفيض ذاكرة العلم بأمثلة لعلماء حازوا على جوائز نوبل، وهم الذين صاغوا مجدهم من رماد الفشل؛ فهذا ألبرت أينشتاين مثلاً، رُفضت أطروحته الأولى للدكتوراه وعدّها أساتذته «غير علمية»، ولم يجد وظيفة أكاديمية فعمل موظفاً متواضعاً في مكتب براءات الاختراع؛ لكن من تلك العزلة خرجت نظريته النسبية التي غيّرت وجه الفيزياء. ثم نقف مع ماري كوري التي واجهت إغلاق أبواب الجامعات أمامها لأنها امرأة، وتعرضت مختبراتها لانفجارات وإصابات جسدية أثناء بحثها عن «الطبيعة المجهولة للإشعاع»، حتى تحولت معاناتها إلى أعظم اكتشاف في الفيزياء والكيمياء معاً. أما ألكسندر فليمنغ فكان فشله في ضبط تجاربه سبباً في ولادة الصدفة الذهبية التي قادته إلى اكتشاف البنسلين، باعتباره أول مضاد حيوي أنقذ ملايين الأرواح، ثم نقف إجلالاً للعالم العبقري جون ناش، عالم الرياضيات الحائز على نوبل في الاقتصاد، حيث عاش تجربة قاسية مع مرض الفصام العقلي، وعاش من خلاله تائهاً بين العبقرية والجنون، لكنه عاد من أعماق المرض إلى منصة التتويج، وكأنّ وعيه الممزق صار أكثر صفاء بعد أن رأى حدود العقل نفسه، وقد سالت دموعي حينما كنت أشاهد فيلماً يحكي قصته مع المعاناة وصولاً إلى جائزة نوبل، وموقف زوجته التي حققت مفهوم وراء كل عظيم امرأة.
أعمق دروس الحياة يمكن أن تُستقى من استراتيجية النملة، ذلك الكائن الصغير الذي يحمل في سلوكه حكمة كونية عجيبة؛ فالنملة حين تسقط لا تتوقف، بل تعاود الصعود في صمتٍ مثابر، وكأنها تُجسّد قانون الطبيعة في الإصرار على الهدف، فهي لا تفقد اتجاهها رغم العقبات، ولا تيأس من قطع المسافات، بل تُعيد المحاولة في كل مرة بأسلوب مختلف حتى تصل. وقد أثبتت الدراسات في علم السلوك الحيواني أن هذا النمط من الإصرار التكيفي ليس مجرد غريزة، بل نموذج بدائي للمرونة الذهنية التي يمتلكها الإنسان أيضاً. إن ما تفعله النملة هو ما فعله جاك ما حين رفضته الشركات، وستيف جوبز حين طُرد من شركته، والعنود حين أصرت على أن ترى اسمها على منتجها. كلهم تحركوا وفق المنطق نفسه: أن الطريق إلى القمة ليس لمن يسقط، بل لمن ينهض بعد كل سقوط. وهكذا تصبح النملة رمزاً فلسفياً عميقاً لإرادة الحياة التي لا تعرف الاستسلام، بل تكتب وجودها بالمحاولة المستمرة.
ختاماً يمكن تفسير الفشل على أنه الوجه الخفي للنجاح، فكل تجربة إخفاق ليست نهاية الطريق، بل هي عدد المرات التي اقترب فيها الإنسان خطوة من تحقيق هدفه، فالفشل لا يعني العجز، بل يعني أن المحاولة كانت تدريباً جديداً على الوصول، وكل تجربة غير ناجحة هي تعديل في المسار، وصقل في الرؤية، وامتحان لصدق الإصرار، ويمكن القول إن عدد مرات الفشل هو في حقيقته عدد محاولات النجاح المؤجلة، لأن من يكرر السقوط لا يبتعد عن النجاح، بل يقترب منه بوعي أكبر، وفهم أعمق لما يجب أن يُفعل وما ينبغي أن يُتجنب.