د.عبدالله بن موسى الطاير
أبناء الدول النامية يسخرون من حالهم، ويصفون دولهم بالعالم الثالث، لكنهم يغضبون عندما يصفهم طرف آخر بأنهم ينتمون إلى العالم الثالث، ما بين كون هذا مصطلحا لدول بعينها أو شتيمة لها بفقرها، فإن تسمية «العالم الثالث» قد سُكت لغير هذا.
برز مصطلح العالم الثالث كدلالة جيوسياسية، صاغه الديموغرافي الفرنسي ألفريد سوفي في مقالة له عام 1952م في سياق رثاء حال الطبقة الثورية في فرنسا رغم أهميتها. في مناقشته صوّر سوفي الدول غير المنحازة، التي كانت في معظمها دولًا مُتحررة من الاستعمار في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، كقوة «ثالثة» تُقاوم هيمنة العالم الأول الرأسمالي (كتلة الناتو بقيادة الولايات المتحدة) أو العالم الثاني الشيوعي (حلف وارسو بقيادة الاتحاد السوفيتي).
في وقتها كان توصيف هذه الفئة من الدول المستقلة عن الانحياز لأحد القطبين إيجابيا، فهي متحررة عن ربقة الاستعمار، وهي مستقلة في قراراتها لا شرقية ولا غربية، وأي فخر ذلك. لاحقا اكتسب المصطلح زخمًا بعقد مؤتمر باندونغ عام 1952م حيث دافع قادة من 29 دولة عن تمسكهم بعدم الانحياز، والمحافظة على فئة ثالثة وازنة بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي.
عزز تأسيس حركة عدم الانحياز في بلغراد عام 1961م مفهوم وجود العالم الثالث، أو المستقل، باعتباره هوية جماعية للسيادة مناهضة للاستعمار والهيمنة الإمبريالية. ومع ذلك، وكعادة القوي في عكس الرواية، وتقبيح السردية من خلال على وسائل الإعلام الجماهيرية إذ ذاك، وتحكمه في تدفق المعلومات، فقد أعاد الخطاب الغربي تعريف دول عدم الانحياز، ذلك الطرف الثالث الوازن جيوسياسيا، وخلع عليه تصنيفا اقتصاديا مرادفا لانخفاض الناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع الأمية، والاعتماد على المساعدات، مما جرده من جوهره السياسي الذ تشكل من أجله، وهو استقلال القرار وعدم الانحياز.
أثار هذا التحول الدلالي استياء واسعا، فما كان مقاومة لهيمنة أحد القطبين تحول إلى شتيمة بالتخلف المستدام، وغالبًا ما استخدمه الغرب الصناعي الغني باستعلاء للانتقاص من دول عدم الانحياز.
بانهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991م اختفى مفهوم «العالم الثاني» ليخلف فجوة استخدمت على أنها حضارية، فهناك عالم أول، هو الدول الصناعية الليبرو ديموقراطية، وعالم ثالث لا يرقى إلى التصعيد للعالم الثاني الذي زال من على الخارطة السياسية.
الأمم المتحدة تجنبت إضفاء الشرعية على مصطلح «العالم الثالث»، مفضلة، عوضا عن ذلك، تصنيفات قائمة على المعلومات ومعتمدة على المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية كالدول المتقدمة مقابل الدول النامية، والبلدان الأقل نموا، وشمال وجنوب العالم.
يشمل «الجنوب» معظم الدول النامية، وفي مقدمتها الصين والهند وتركيا ودول الخليج الغنية، وهذه الدول مرتاحة جدا لهذا التصنيف وتتمسك به، بل وتقاتل سياسيا لبقائها في هذه الفئة لأنه يعفيها من التزامات ضخمة من المساهمات الإلزامية في تمويل المنظمات الدولية، والمساعدات المقدمة للدول النامية وتمويل مشاريعها الإنمائية.
وفقًا لتقرير التنمية البشرية لعام 2025م فإن الدول ذات الأداء الأفضل في مؤشر التنمية البشرية المتقدمة تتصدرها دول مثل أيسلندا، النرويج، سويسرا، الدنمارك، ألمانيا، السويد، أستراليا، هونغ كونغ، هولندا وبلجيكا.
وتتميّز هذه الدول بارتفاع متوسط العمر المتوقع، ومستوى تعليمي واسع، ودخل فردي مرتفع. في المقابل، هناك دول أقل نموا وفق المؤشرات التنموية وتتصدرها جنوب السودان، جمهورية أفريقيا الوسطى، تشاد، النيجر، بوروندي، مالي، سيراليون، بوركينا فاسو، اليمن، والصومال. تواجه هذه الدول تحديات شديدة؛ متوسط العمر المتوقع أقل من 60 عامًا، وفترة الدراسة أقل من 5 سنوات، ودخل فردي إجمالي أقل من 1500 دولار أمريكي في السنة، ووضع يتفاقم بسبب الصراعات ومخاطر المناخ وعدم الاستقرار.
مسألة العالم الأول والثاني والثالث ليست دلالات لغوية لتمييز الدول عن بعضها فحسب، وإنما أعراض لمشكلات أعمق؛ فالتسميات تُشكل التصورات وديناميكيات القوة. في حين كان مصطلح العالم الثالث يُعزز الوحدة في الماضي ويبرز قيمة الاستقلال، فإنه الآن يُشوهها، متجاهلًا عوامل حيوية مثل الثروة في دول الخليج، وتنويع مصادر الاقتصاد، والتصنيع في الصين والهند وفيتنام أو النمو في إثيوبيا.
وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة تجتهد في تصنيفاتها بحيث لا تلمح إلى انتقاص من أي دولة بسبب قلة مواردها، وتعمل من خلال خطط التنمية المعتمدة إلى تقديم مساعدات مُستهدفة وفق أطر زمنية دون استعلاء، إلا أن الساسة الشعبويين والأحزاب المتطرفة في دول الشمال العالمي تقدح بمثل هذا الانتقاص مع كل سانحة للتأكيد على أن الشرق شرق والغرب غرب وإن سادت فترات من التسامح الحضاري.