نَبكي عَلى الدُنيا وَما مِن مَعشَرٍ
جَمَعَتهُمُ الدُنيا فَلَم يَتَفَرَّقوا
لاشك أن فقد الأخيار مؤلم لنفوس محبيهم وعارفيهم وبخاصة زملاء الدراسة التي تقادم عهدها، ومن أولئك معالي الشيخ محمد بن إبراهيم الهويش رئيس محكمة التمييز بالرياض سابقاً، والذي انتقل إلى رحمة الله يوم الاثنين 26-5-1447هـ، وتمت الصلاة عليه عصر يوم الثلاثاء 27-5-1447هـ، بجامع الراجحي بالرياض ثم حمل جثمانه الطاهر إلى مقبرة النسيم حيث وُورِي الثرى هناك في أجواء حزن وأسى على رحيله.
ولقد كانت ولادته في مدينة شقراء في عام 1358هـ، ونشأ وترعرع في بيت علمٍ وأدب وبعد بلوغه السادسة من عمره ألحقه والده بالمدرسة الابتدائية بشقراء إلى أن نال الشهادة منها عام 1370هـ، وبعد ذلك انتقل إلى الطائف ملتحقاً بدار التوحيد المدرسة التي أسسها جلالة الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- واختار موقعها بالطائف عام 1360هـ وسماها «دار التوحيد» وعهد إلى الشيخ محمد بن عبدالعزيز المانع مدير المعارف -آنذاك- بالإشراف عليها حيث جلب لها نخبة من علماء الأزهر وبعض علماء الأقطار الشقيقة، فمعالي الشيخ محمد -رحمه الله- زميل الدراسة بدار التوحيد بالطائف.
ولقد طوحت بي الذكريات والحنين إلى تلك الأيام السابقة بدار التوحيد.
بلدٌ صَحبْتُ به الشبيبة والصِّبا
ولبستُ ثوب العمر وهو جديدُ
بنَفْسي تِلْكَ الأرضُ ما أَطْيَبَ الرُّبى
وما أَحْسنَ المُصْطافَ والمُتَرَبَّعا
والحقيقة أن الحديث عن زملاء دار التوحيد والذكريات الجميلة معهم لا يمل تكرارها ولا ترديدها تلذذاً واستئناساً وإن كنا نأسف على استحالة عودة أيامها ولياليها.
وقد التحقت بدار التوحيد عام 1371هـ وكان معالي الشيخ محمد قد التحق بها في عام 1370هـ قادماً من شقراء، وكان أخوه الشيخ عبدالعزيز في السنة الرابعة بدار التوحيد وتخرج من كلية الشريعة بمكة المكرمة وتوفي - رحمه الله - عام 1394 هجرياً؛ فأيام الغربة تقوي أواصر المحبة وترسخها في شعاب النفوس، حيث كنا كالأسرة الواحدة نسكن في القسم الداخلي مهجع المغتربين القادمين من نجد وقراها بل ومن شتى أنحاء المملكة عموماً، ولقد كان نعم الأخ والصديق. وقد نشأ في بيت علم وأدب حيث كان والده الشيخ إبراهيم -رحمه الله- من أوائل الذين انتدبهم الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- للعمل في الحجاز لتدريس العلوم الدينية والعربية وذلك في عام 1349هـ، حيث درَّسَ في المدراس الابتدائية وكذلك أخيه الشيخ عبدالعزيز -رحمه الله- ممن درس في المعهد السعودي بمكة المكرمة، وكذلك عماته الكريمات -رحمهن الله جميعاً- درسن وحفظن القرآن الكريم، وكان لهذه البيئة والتربية الأثر الواضح في أخلاق الزميل العزيز الشيخ محمد -رحمه الله- واتجاهه لطلب العلم الشرعي.
ولقد زاملته في عامي 1371 و1372هـ وبعدها رجعت إلى الرياض ملتحقاً بالمعهد العلمي ومن ثم أكملت الدراسة في كلية اللغة العربية إلى أن تخرجت منها في عام 1378هـ، ومعالي الشيخ أكمل دراسته في دار التوحيد ثم التحق بكلية الشريعة بمكة المكرمة إلى أن تخرج منها في عام 1378هـ، ثم حصل على شهادة الماجستير من المعهد العالي للقضاء بالرياض عام 1389هـ. وكنا أثناء عودتنا من الطائف في الإجازة الصيفية نمر على والده الشيخ الجليل إبراهيم الهويش حيث كان قاضياً في مرات، حيث يقوم بإكرامنا ونتناول عنده طعام الغداء ثم نواصل المسيرة إلى وجهتنا حريملاء.
ولا أنسى أيامنا بالطائف وأمسياته وميادين قروى وبساتين المثناة والمنتدى الثقافي الأدبي الذي يقام في ليالي الجمع من كل أسبوع فيتبارى فيه الشعراء والخطباء من الطلاب، فهو منبر تدريب وتعويد على الخطابة والارتجال، ويحضره نخبة طيبة من الأدباء والمثقفين ورؤساء الدوائر الحكومية وفي طليعتهم أمير الطائف عبدالعزيز بن فهد المعمر ومساعده ناصر المعمر – رحمهما الله – ووجهاء البلد كما يحضره لفيف من طلاب كلية الشريعة بمكة المكرمة رغم وعورة الطريق وبعد المسافة -آنذاك- منهم على سبيل المثال المشايخ عبدالله بن خميس وعبدالعزيز المسند وعبدالله الفالح وعبدالعزيز العبدان تشجيعاً لنا.
وكان الزميل العزيز الشيخ محمد الهويش -رحمه الله- له الكثير من المساهمات في هذا المنتدى بالكلمات والقصائد، فقد كان متميزاً في ذلك وكنا نطلق عليه معشر الطلاب لقب (شاعر دار التوحيد) وذلك لجزالة قصائده وشعره ومشاركاته المتعددة، وقد استمرت علاقتي به منذ تلك السنوات إلى قبيل وفاته -رحمه الله-.
سبعون عاماً تولت كأنها
حلوم تقضت أو بروق خواطف
ونتبادل الزيارات والإهداءات من الكتب فيما بيننا والاتصالات الهاتفية بين الفترة والأخرى وذلك للسلام والاطمئنان عليه.
نبادله الصداقة ماحيينا
وإن متنا سنورثها البنينا
ولقد عرفت عنه سماحة الخلق وطيب المعشر وعفة اللسان، وقد خدم بلاده في عدة مواقع معلماً بوزارة المعارف ومساعداً لمدير التعليم بالخرج ومساعداً فنياً لمدير عام التعليم الابتدائي في الوزارة ثم انتقل إلى ديوان المظالم محققاً شرعياً وذلك في عام 1380 هـ إلى 1397هـ، وبعدها انتقل إلى وزارة العدل مفتشاً قضائياً إلى أن تقاعد رئيساً للتمييز بمحكمة التمييز بالرياض، وله مشاركات وبرامج إذاعية ومؤلفات مطبوعة، وحضور عدد من المؤتمرات والندوات العلمية بالمملكة وخارجها، ولاشك أنه قد قام بعمله بكل أمانة وإخلاص.
قضيتَ حياة ملؤها البر والتقى
فأنت بأجر المتقين جديرُ
وينطبق عليه قول الشاعر:
وَجهٌ عَليهِ مِنَ الحَيَاءِ سَكِينَةٌ
وَمَحبَّةٌ تَجرِي مَعَ الَأنفَاسِ
وَإذَا أَحَبَّ اللهُ يَوماً عَبدَهُ
أَلقَى عَليهِ مَحَبَّةً في النَّاسِ
رحم الله معالي الشيخ محمد بن إبراهيم الهويش وأسكنه الله فسيح جناته وألهم أخاه الشيخ ناصر وأبناءه وبناته وأسرة الهويش ومحبيه الصبر والسلوان.
هَنيئاً لَهُ قَد طابَ حَيّاً وَمَيِّتاً
فَما كانَ مُحتاجاً لِتَطيِيبِ أَكفانِ
** **
- عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف