هدى بنت فهد المعجل
يبدو الإنسان في ظاهر حياته كائنًا يقرر، يفكّر، ويختار. لكن الحقيقة الأكثر خفاءً أن كثيرًا مما نعدّه «اختيارًا» ليس سوى صدى بعيد لعادةٍ تشكّلت بصمت، ثم أمسكت بزمام الطريق دون أن ننتبه.
نحنُ نخطو نحو المستقبل بعقولٍ نعتقد أنها تقودنا، بينما تقودنا في الواقع تفاصيل صغيرة رسخت في أعماقنا، وصارت كأنها خريطة داخلية لا نراها، لكنها ترى لنا.
العادات ليست مجرد تكرار ميكانيكي؛ إنها أشبه بخيطٍ رفيع يمرّ عبر أيامنا، يربط بداياتنا بنهاياتنا، ويمنح الزمن شكله.
ما نفعله كل يوم -تلك الدقائق التي نتعامل معها كأنها هوامش لا قيمة لها- هي التي تتكفّل بصنع متن حياتنا. فالمستقبل، مهما بالغنا في وصفه، ليس أكثر من مجموع اختيارات صغيرة، تُعاد مئات المرات حتى تصبح قدرًا.
هناك ذكاءٌ خفيّ في العادات؛ ذكاء لا يعتمد على الوعي، بل على الاستقرار. فهي لا تسألنا الإذن قبل أن تُشكّلنا، ولا تنتظر موعدًا لتغيّرنا. خذو مثلاً عادةً بسيطة مثل طريقة استقبال الصباح. قد يبدأ أحدهم يومه باستعجالٍ يفتح كل الأبواب ويطفئ كل الهدوء، بينما يبدأه آخر برشفة قهوة صامتة تُعيد ترتيب أفكاره. كلاهما لا يفكر كثيرًا في «العادة»، لكن العادة تفكر فيهما: الأول يسير نحو يومٍ يغلبه القلق، والثاني نحو يومٍ ينحاز إلى الوضوح. كأن الطقوس اليومية الصغيرة تضع أقدامنا على سكّة محددة لا ننتبه لطول المسافة التي ستقودنا إليها.
والعجيب أن العادات تعرفنا أكثر مما نعرف أنفسنا. نظنّ أننا نغيّرها متى أردنا، لكننا نكتشف سريعًا أن ما نحاول تغييره ليس فقط سلوكًا، بل منظومة منسوجة من الذاكرة والانطباع والراحة النفسية. لذلك يشبه تغيير العادة محاولة إعادة برمجة برنامج يعمل منذ سنوات دون توقف. قد نضغط زرًا جديدًا، لكن الخوارزمية القديمة تواصل العمل من الخلفية، تنتظر غفلة واحدة لتعود وتحكم قبضتها.
غير أن في هذا الواقع فرصة مذهلة، فإذا كانت العادات قادرة على تشكيلنا دون وعي، فهي قادرة أيضًا على إنقاذنا حين نعيد تشكيلها بوعي. يكفي أن يتسلل تغيّر صغير - دقيقة مشي بعد الغداء، دفتر صغير نكتب فيه سطرًا كل ليلة، أو قرار بإغلاق الهاتف ساعة قبل النوم - حتى تبدأ الخريطة الداخلية في إعادة رسم خطوطها. التغيير الحقيقي لا يحدث بالقرارات الكبرى، بل بتعديل طفيف نكرره حتى يصير عادة.. ثم يصيرنا.
إن الحياة لا تتبدل حين نصرخ «سأبدأ من جديد»، بل حين نقول همسًا «سأبدأ بخطوة واحدة». فالغد لا يأتي دفعة واحدة، لكنه يتكوّن شيئًا فشيئًا من لحظات تتكرر حتى تصبح مستقبلًا. وما نعتبره أمورًا صغيرة - الطريقة التي ننهض بها من السرير، الكلمات الأولى التي نقولها كل صباح، نظرتنا السريعة للمرآة - هي في الحقيقة بوصلةٌ دقيقة، تشير إلى الاتجاه الذي ستسير إليه سنوننا المقبلة.
إذًا نحن لسنا أكثر من مجموع عاداتنا. وما نفعله بلا تفكير اليوم، يحدد ما سنفكر فيه غدًا. ولعل الحكمة كلها تكمن في أن نختار تلك التفاصيل الصغيرة بعناية، قبل أن تختار لنا طريقًا لا نعرف كيف سنصل إليه. فالحياة، مثل الماء، تجري في المجرى الذي نرسمه لها كل يوم.. قطرةً بعد قطرة.