د. علي القحيص
القيم العربية الأصيلة متوارثة عند العرب قديما، وهي معتقدات ثابتة وأساسية، والمثل العليا التي تعد هوية الفرد والمجتمع، وتشكل صفاته وانطباعه، من خلال توجه سلوكه وتعامله وتحدد شخصيته وملامحها، مثل الأمانة والصدق والنزاهة والمبادئ والثوابت، وأتى الدين الإسلامي الحنيف ليشذبها، فمنها من أكد عليها أنها من فطرة وسلوك الإنسان السوي لا مناص عنها، ومنها ما أوضح نفعها من ضررها.
وتراثنا العربي حافل بوقائع البطولات ومفاخرها، ونبراس القيم العالية والعادات الراسخة في المفاهيم والأخلاق والإنسانية.
نحن أبناء وتلاميذ الإعلام التقليدي الرزين، كنا في زمن الصحف الورقية والمجلات والتلفزيون، في منهجنا لا تمس المحرمات والثوابت، سواء التي تتعرض للذات الإلهية أو رموز الوطن أو عدم خدش الحياء والذوق العام مهما تكن الظروف والمناسبات.
نحن اليوم نشاهد فضائيات ومواقع تواصل اجتماعي، أشبه ما تكون مجلة (الشبكة والصياد) أيام زمان، حين تصلنا وأغلبها (مطموس بالحبر الأسود) منعا للإحراج خط أسود عريض على الصور الخلاعية والفاحشة، وحتى على بعض المفردات النشاز الخادشة للحياء التي لا تصلح للنشر!
كنا في الصحراء على طريق (التابلاين) الذي يربط المملكة بالدول العربية المجاورة في الشمال، نقف على طريق الشارع العام، ونفرح إذا وجدنا صفحة من هاتين المجلتين، طائرة من نافذة شباب صهريج أو تريلة وقاطرة مقطورة، تحمل الفواكه من لبنان إلى السعودية، ونشم رائحة فاكهة التفاح والبرتقال ولا نستطيع أن نأكلها لعدم وجودها في منازلنا قديما!
وحين نجد قصاصة أو صفحة من تلك المجلات ( الصفراء) نتلقفها ونستمتع بمطالعة صور الفتيات الجميلات بالمجلة، ومن كان سعيد الحظ بيننا إذا وجد مجلة كاملة، نستعيرها واحدا تلو الآخر، حتى نشاهدها بالمساء (ليلا) بدون علم أهلنا!
أما اليوم كل محتويات تلك المجلات الهابطة والمخلة بالآداب متوافرة مجانا، نشاهدها في منازلنا وأمام عوائلنا وأطفالنا، من خلال شاشات الفضائيات التي تتحدث بالعربية أو من خلال مواقع (التفرغ) الاجتماعي!
هل فعلا نحن هكذا وهذه ثقافتنا وأخلاقنا وسلوكنا من الأساس، أم انكشف المستور، وسرنا وراء الثبور، أين الرقابة وأين المساءلة لحماية تربية النشء، أو حتى (تربيتنا) نحن المراهقين بعد الستين، لأن في طفولتنا لم نعرف أو نجرب ونمارس (المراهقة)! لأننا تربينا في بيئة صحراوية وقاسية ولم نشعر بالطفولة، التي يجربها أبناؤنا اليوم بكل وقاحة وقلة أدب ودون حياء وبراءة!
أصبح أبناؤنا يعلموننا كيف نستخدم التلفزيون والهاتف والأجهزة الإلكترونية الدقيقة والكاميرات الرقمية والهواتف الذكية، بل أصبحوا يعطوننا دروسا في الحياة العصرية ويرشدوننا، كيف ننام ونأكل ونعمل!
ما هذا التغير المفاجئ والانفلات العكسي في سلوكنا الطبيعي الذي أصبح يتحرك «بالريموت كنترول» حالنا حال أي آلة مستهلكة، زمن العجائب الذي قلب حياتنا رأسا على عقب!
إنها مفارقات غريبة عجيبة أصبحت عقولنا لا تستوعب هذا الكم الهائل السريع المنفلت من التطور السريع الجارف، حياة اليوم ندفع ثمنها نحن الجيل (الوسط) الذي أصبحنا ندفع ثمنا قاسيا من حياتنا التي نحس بازدواجيتها وانفصام شخصيتنا!
قدرنا لم نغادر مع آبائنا الذين لم يعيشوا تقلبات هذا الجيل الجديد و(عصر النت)، ولا نحن قادرون أن ننسف كل القيم والأخلاق والسلوك والممارسات السابقة، التي تعلمناه من آبائنا وبيئتنا، لكي ننصهر ونتأقلم ونندمج بل نتفاعل ونتناغم مع شباب اليوم، الذي يعتبرنا (دقة قديمة) و»اكسباير»، أكل الزمن وشرب الدهر على ثقافتنا وطرق تعاملنا مع الواقع القديم، الذي أصبح شيئا من الماضي، وينطبق علينا القول؛ (لا يصلح العطار ما أفسده الدهر)؟!