كوثر فارس
في ركن هادئ من الوجود، حيث يختلط السر بالمكنون والظل بالمستور، تئن الحياة بأسئلتها العتيقة عن العدالة والإنصاف والحقيقة.
هناك، في زاوية ضوءٍ خافت، انحنت زهرة، وكأنها تخاطب الشمس سرًّا وتهمس للأرض بهدوء المعاناة المكتومة. مشهدٌ لا يراه سوى من عرف أن الصمود ليس قوة الجسد، بل حكمة الضمير.
أمامها وقفت الفتاة، بين البهاء والخفاء، بين السناء والصفاء. محاطةً بألوانٍ تتألق بين لينٍ وجلال، بين وجدٍ وجمالٍ، كأن كل لون يحاكي قلبًا ينبض في صمتٍ عميق.
اقتربت ببطء، كأن كل خطوة محاولة لاستنطاق ذاتها، لاكتشاف انعكاسات روحها في مرآة الطبيعة. رفعت يدها برفق، تلامس أوراق الزهرة، وتهمس بصوتٍ موزون بين الدفء والصمود، بين الهدوء والخمود: «سأسميكِ ياقوت، لأنكِ نار القلب، وبوحُ الصبر، ومرآةُ سرٍّ لا يراه سوى النور.»
في الغرفة، حيث الضوء يتسلل بخجل عبر نافذةٍ نصف مفتوحة، كان الهواء يحمل رائحة البرد والماضي، كأنه ينقل بقايا أصواتٍ لم تكتمل. هناك، في ركن، وقفت زهرة الياقوت بلونٍ متدرج بين الأحمر الداكن والبنفسجي، كأنها صنعت من الغموض دفئها الخاص. لم تكن مجرد زهرةٍ في مزهرية، بل كانت سرّها الوحيد ورفيقة صمتها حين يخنقها المنزل بما يفرضه من قيود.
كل مساء، بعد أن تُغلق الأسرة أبوابها، وتصبح الجدران شهودًا بلا ذاكرة، كانت تقترب منها، تلمس أوراقها برفقٍ يشبه الاعتراف، وتهمس في أعماقها: داخل الجوهر الداخلي يتأرجح ميزان أبدي بين الرأفة التي تسامح والقوة التي تحكم، وبين الرحمة التي تشفي الندوب والمنطق الذي يفرض الحساب، كرقصة خفية تتناوب فيها الذات والفكر على قيادة الإنسان.
وفي صمت هذا التناقض، تنبثق العدالة لا كقانون جامد، بل كمعاناةٍ سامية تتشكل في كل لحظة إدراك: أن نفهم ضعف الإنسان دون أن نبرّره، وأن نُقيم الإنصاف دون أن نُميت الرحمة في قلبنا.
وعند هذا التأمل، يظهر التساؤل الأزلي: هل العدالة إذًا مبدأ إلهيّ، أم تمرينٌ بشريّ على أن نكون أكثر إنسانية من رغبتنا في الانتقام؟
في هذا الفضاء الفلسفي، يدرك القلب أن التمييز يولد من الداخل قبل الخارج، وأن الفهم الأعمق للعدالة يبدأ من معرفة الذات والتصالح مع خفاياها، قبل محاكمة العالم.
وكلما حاولت أن تجد إجابة، وجدت نفسها تغوص في ذكريات الطفولة المؤلمة؛ البيت الذي يختنق بالصمت والنقد، والأب الذي يبتسم للخطأ دون وعي، والأم التي تعلّق اللوم على أصغر حركاتها لأنها «فتاة» ويجب أن تكون خاضعة. لم تكن مجرد كلمات تُقال، بل أحكامٌ تترك أثرًا عميقًا في الروح: عندما حاولت التعبير، كانت توبخ على صوتها العالي، وعلى فرحها الذي لا يوافق القيود، وعلى فضولها الذي يُعتبر تجاوزًا للحدود. كل مرة تُضحى فيها برغبتها في اللعب الحر، تُسجّل في قلبها ندبة جديدة.
وفي عمق هذا المشهد، ينبثق حوار داخلي بين الأجيال: كيف يرى الآباء أبناءهم؟ كيف يتوارثون النظرة إلى الأنوثة كقيدٍ لا ككينونة؟ لقد ربّى الآباء أبناءهم على صورةٍ رسمها آباؤهم من قبل، حيث الذكر امتدادٌ للسلطة، والأنثى امتدادٌ للسمعة. كل جيل يكرر ما لم يفهم، يزرع الخوف بدلاً من الوعي، فيتحول الحب إلى رقابة، والرعاية إلى حكمٍ مؤبد.
وهكذا، يصبح البيت أول محكمة، والأب أول قاضٍ، والأم شاهدةً تصمت باسم التضحية. إنها حلقة تربوية مغلقة، تُنتج التمييز كأنّه قانون فطري، وتُزيّف العدالة تحت شعار «النية الطيبة».
ثم همست في زهرتها: «يا ياقوت، كيف تحولت الرقة ذنبًا، والجمال قيدًا، والحياء ضعفًا؟ وكيف يمكن للصبر أن يصبح خضوعًا لنا، وحكمةً لهم؟»
وكانت الإجابة في تلاقي الروح بالعالم: الصبر عندنا قيد لأنه يثبت حدود الخضوع، وعندهم فضيلة لأنه يمنحهم سلطة. هكذا، يولد التفاوت، وتتسلل العدالة إلى فجوة بين ما يُقال وما يُمارس. وما يدركه القلب في صمتٍ صوفي هو أن الفهم الحقيقي للعدالة لا يقوم على المظاهر، بل على جوهر المعاملة: هل نزرع القوة أم الرحمة؟ هل نحكم وفق الخوف أم المحبة؟
الأنوثة إذن ليست مجرد صفة بيولوجية، بل «هوية قانونية واجتماعية» صيغت على مقاس الذكور. حين تُدان المرأة على تعبيرها، أو تُسحق كرامتها باسم الخوف من «العيب»، تصبح العدالة خادمة لمفاهيم لا تعرف الحق إلا بما يخدم التوازن المزعوم بين «الرجولة والوصاية».
في لحظة المفاضلة بين الذكر والأنثى، تُعلَّق العدالة على مشجب العادات: إخفاق الرجل يُغتفر لأنه «ابن العائلة»، بينما نجاح المرأة يُشكَّك فيه لأنه «تجاوز للدور المرسوم لها».
هذه ليست قوانين مكتوبة، بل أحكام عرفية تتسلّل إلى كل تفاصيل حياة المرأة - في عملها، في دراستها، في أبسط خياراتها. في بيتٍ واحد، يُسامح الأخ على كل خطاياه لأنه يمرّ بأزمة، فيما تُوبخ الأخت على مجرد فكرة عن التمرد أو ابتسامة استباقية، أو نظرة اعتُبرت تحديًا. وفي الشارع تُسمّى «جريئة»، وفي المحكمة «مريبة»، وفي البيت «ناقصة نضج». أما هو، فكل تلك الصفات تُترجم إلى «رجولة». فالعدالة، إذن، انعكاس لتنشئة منحازة من المجتمع منذ البداية، لا كائن حي.
أما في عالم تتداخل فيه النصوص القانونية مع الثقافة المجتمعية، يصبح القانون ليس مجرد إطار محايد، بل مرآة للموروثات والانحيازات الثقافية. النصوص قد تبدو عادلة على الورق، لكن التأويل والتطبيق يكشفان عن تباين عميق: كم من قضية إدمان ذكوري انتهت بـ»يحتاج للعلاج»، وكم من زلة نسوية انتهت بـ»تسيء لسمعة العائلة».
حين تصبح نظرة القاضي امتدادًا لتنشئته الأولى، يتحول القانون من حامٍ إلى شاهد صامت على الظلم، ويظهر مدى تحرر المجتمع من ثقافته الموروثة. فما جدوى كتابة «المساواة أمام القانون»، إذا كانت تُقرأ بعيون منحازة للذكورة، ويصبح الإنصاف خيارًا لا قاعدة؟
تدفق وجدها نحو زهرة الياقوت، ليس فقط كرمز للصبر، بل كمحاكاة حيّة للعدالة الإنسانية والأنوثة.
هنا، في هذا الكيان الصامت، ترى التوازن بين القوة والضعف، بين الحدس والفهم، بين ما هو ظاهر وما هو مخفي. الزهرة ليست مجرد نبات، بل انعكاس لروح الأنثى التي تناضل من أجل أن تكون كاملة، غير محدودة بقيود تقليدية، متماسكة في جمالها وعاطفتها وصمتها المقاوم.
كل ورقة تتمايل وكأنها تقول: العدالة ليست مجرد قوانين تُقاس بالأفعال، بل جوهر ينبع من إدراكنا للمعاناة والرحمة، ومن قدرتنا على رؤية الإنسان خلف الدور الاجتماعي المفروض عليه.
كل صمت، كل بتلة، كل انعكاس للضوء على الأوراق، يصبح رمزية لمعركة مستمرة بين الكينونة الذاتية والقيود المفروضة. وهكذا، تصبح الزهرة محورًا للتأمل: العدالة والأنوثة ليستا مجرد مفاهيم متباينة، بل وجهان لوعي واحد يتنفس الحرية والكرامة.
بين ثوانٍ من الوعي، ارتفعت روحها مع النسيم، تراقب الضوء يختلط بالظل، تشعر بالسلام يتسلل إلى قلبها، حيث تنمو الحياة كما يجب أن تكون: ضوءٌ بلا حكم، حرية بلا قيود، وأملٌ يهمس في كل نفس، بأن لكل روح مكانًا لتتألق فيه، وأن لكل وجع سرٌّ يتحوّل إلى إدراك.
جلست أمامها طويلًا، تتأمل، تلمس المزهرية كما لو كانت قراءة نبض الحياة فيها. الزهرة، بصمتها، تحاكي الحرمان والصبر، وتكشف معنى الرغبة في التواجد بحرية، بعيدًا عن الحكم المسبق.
على صدى كل تلك اللحظات، حلمت بما كان يمكن أن يكون: حياة يُقاس فيها النجاح بفرصة إثبات الذات لا بانحياز الأبوين، حياة تكون فيها المساواة واقعًا، والعدالة حقًا ثابتًا. تصورت نظرة والديها حين ترى نفسها تتحقق، لا باعتبارها «فتاة» أو «ابنة»، بل إنسانة قادرة على الوجود المتكامل، دون قيود، دون تمييز، حياة يسود فيها الاحترام والإنصاف.
في ذروة الغروب الأخير، عادت الفتاة لتجلس أمام زهرتها، ولكن هذه المرة ليس فقط لتتأمل جمالها أو صبرها، بل لتشكرها على كل حضورها الخفي في حياتها؛ على كل نبضة أمل أضاءت في عتمة أيامها، وعلى كل لحظة صمت فهمت فيها معنى الرفقة حين لم تجد أحدًا. رفعت يدها برفق، تلامس الأوراق كما لو كانت تعانق روحها، وتهمس بصوت داخلي:
«شكرًا لكِ، يا ياقوت، لأنك كنت مرآة صمتي، ورفيقة ألمّي، وسرّي الذي لم يره سوى نورك.»
عند نقطة السكون، بين رقة الزهرة وصمت اللحظة، يختلط الوعي بالتساؤل: هل العدالة زهرة تزهر، أم صخرة تقصف الميزان؟»
كانت تنظر إلى «ياقوت» وكأنها مرآة الوجود كله، لا وردة في مزهرية بل كائنٌ يشاركها الصمت والمعنى. في عينيها انكسرت كل المحاكم القديمة، وتهاوت كل الموازين المصنوعة من الخوف.
فهمت أخيرًا أن العدالة لا تُمنح، بل تُنبت من الداخل، وأن الأنوثة ليست اعتذارًا عن الوجود، بل إعلانًا عنه.
مدّت يدها نحو الزهرة كما لو كانت تودّع ذاتها القديمة، وقالت بصوتٍ خافتٍ يجاور الحكمة والألم: «كم زرعت البذور في داخلي أبد الدهر، وانتظرت أن تزهر.. حتى أدركت أن التربة كانت صلبةً، مليئةً بالحصى، فعرفتُ حينها أن الزهر الحقيقي يزهر في أبد الدهر.»
وهكذا، تنتهي الحكاية لا بانكسارٍ ولا بانتصار، بل ببصيرةٍ تتفتح من رماد التجربة: أن العدالة، مهما بدت بعيدة، ليست صخرة ولا زهرة، بل نَفَسُ امرأةٍ اختارت أن تفهم، لا أن تُدان.
***
- باحثة قانونية وحقوقية - المغرب