د. عبدالحق عزوزي
إن التكامل الاقتصادي بين الدول الإفريقية قليل ومؤسف جداً، إذ لا تتعدى فيه حصة إفريقيا في التجارة العالمية نسبة 3 %، بينما تمثل المبادلات البينية الإفريقية نسبة 16 % من مجموع التجارة الإفريقية، مقارنة بـ60 % بالنسبة لأوروبا، و50 % بالنسبة لآسيا، علما أن إفريقيا قارة شاسعة وتزخر بخيرات كبيرة، حيث تمتلك 40 % من الاحتياطيات العالمية من المواد الأولية، و30 % من المعادن الاستراتيجية، إلى جانب ما تتوفر عليه من مؤهلات كبيرة في مجال الموارد المعدنية والطاقية والمائية والفلاحية والبيولوجية.
لم تنجح إفريقيا في جني ثمار المؤهلات والثروات التي تتوفر عليها، ولم تنجح في خلق قيم مضافة، ولا مداخيل جديدة لتمويل تنميتها واكتفت بدور المصدر لثرواتها. وتغيير هاته الحقائق يظل رهيناً بعدة عوامل بما في ذلك الاستثمار في تحويل ثرواتها الطبيعية وتثمينها محلياً وقارياً، وخلق سلاسل قيمة إقليمية وتشجيع التصنيع وخلق فرص العمل، وتعزيز التكامل الإقليمي وشبه الإقليمي.
كل هذا ممكن؛ لأن الدول الإفريقية تملك اليوم نخباً جديدة متخصصة في جميع المجالات الصناعية والاقتصادية والتنموية بل وحتى العسكرية والإستراتيجية، وهاته النخب بالمناسبة هي التي غيَّرت مسار التعاون الأمني مع الدول المستعمرة القديمة لتفتح أبوابها لقوى دولية جديدة. كما أن الكثير من هاته النخب درست في الخارج ومارست مهناً تنموية متعددة قبل أن ترجع إلى بلدانها الأصلية.
فالذي تحتاجه الدول الإفريقية هو تغيير سياساتها العمومية وتبني سياسات قائمة على قواعد رياضية دقيقة، والزيادة في الاستثمار في العقول والتعليم وفي الثقافة المجتمعية واعتماد منهج الإبداع والريادية وربطهما بالاستثمار، وبعلاقات الإنتاج وأساليب إدارتها، ومعالجة معوقات توطين التكنولوجيا. وتغيير السياسات العمومية يعني أولاً وقبل وكل شيء تغيير الأساليب المعتمدة في تمويل التنمية، بما في ذلك تعبئة متكاملة وذكية لموارد إفريقيا الداخلية، والقيام بإصلاحات هيكلية من أجل تقوية الإطار الماكرو-اقتصادي، وتشجيع آليات مبتكرة لتمويل التنمية، وعدم الاكتفاء بالدعم العمومي للتنمية، أو التمويلات الخارجية المنشئة للديون والمخربة للماليات العامة. إن دولاً مثل اليابان تبنت سياسات عمومية رائدة فنجحت في مجال التنمية وحققت المعجزات. فاليابان دولة مساحتها محدودة جداً ولكنها تمثل ثاني اقتصاد العالم، ولا يخلو بيت من بيوتات العالم إلا وتجد آلة أو حاسوباً أو هاتفاً صنع في هذا البلد؛ فهاته البلدة عبارة عن مصنع كبير قائم على العلم وعلى السياسات العمومية الرائدة في مجال الصناعات المتطورة والاستثمارات الواقعية، وهي تستورد كل المواد الخام لإنتاج مواد مصنعة تصدرها لكل أقطار العالم؛ ولنأخذ بلدة أوروبية وهي سويسرا. فعلى الرغم من عدم زراعتها للكاكو الذي يأتيها من إفريقيا فإنها تنتج وتصدر أفضل شوكولاتة في العالم؛ كما أنه رغم طبيعة جغرافيتها وضيق مساحتها الزراعية فإنها تنتج أهم منتجات الحليب في العالم.
كما أن الدول الإفريقية مطالبة بإحداث بيئات مؤسساتية اقتصادية واجتماعية مواتية للتنمية؛ ولا يمكن أن يتم ذلك إلا من خلال سقيها بمبادئ الحوكمة الجيدة وتجويد مناخ الأعمال، وتقوية الشفافية، وحماية المستثمرين، والقضاء على الفساد وتخليق منظومة العدالة.
كما أن إفريقيا يجب أن تتحدث بصوت واحد حتى لا ينظر إليها أنها قارة خلقت لتصدير الهجرة والمشاكل، بل هي قارة طموحة لها من الموارد والإمكانيات ما يمكنها من تبوؤ قدم صدق في مجال التنمية؛ وهذا الصوت الواحد يجب أن يُسمع في كل اللقاءات الدولية، وهي مناسبة يمكنها من الترافع من أجل تخفيض نسب الفائدة المرتفعة التي تقوض ماليات البلدان الإفريقية في الأسواق المالية الدولية، ومن أجل تحسين تمثيلية إفريقيا داخل النظام المالي الدولي، وهي مجتمعة مطالب مشروعة وبدونها لا يمكن تحقيق التنمية المنشودة.
كما أن هناك تواجداً صينياً وروسياً متزايداً في الدول الإفريقية، يثير مخاوف أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، من مغبة توسع الدولتين الغريمتين لها؛ وتفهم العواصم الغربية تداعيات تعزيز روسيا لوجودها في القارة بشكل كبير.. كما تفهم تداعيات إنشاء الصين لطرق حرير جديدة؛ وأصبح هذا البرنامج الاستثماري الضخم في البنية التحتية بمثابة السياسة الكبرى للدولة... خاصة أنه وفقًا للتوقعات، ستكون القارة بحلول عام 2050 موطنًا لربع سكان العالم؛ وبحلول عام 2075 سيرتفع العدد إلى الثلث؛ فالكثير من صفحات تاريخ هذا القرن ستكتب في إفريقيا.