أ.د.عبد الله بن سليم الرشيد
من الأشياخ الذين لا يُنسون أستاذُنا الدكتور محمد بن عبدالرحمن المفدّى، رحمه الله، الذي كان ضريرًا معوَّضًا بصيرةً وبصَرًا بالناس، وكان بحرًا في علمي النحو والصرف، ضليعًا فيهما من رأسِه إلى أخمصِ قدميه، ويُخيِّل إليّ أن كلَّ جارحة من جوارحه كانت تناظرُ أختَها في مسألة علمية، ومع ذلك لم يكن بالمتكبّر على العلم، بل فيه تواضعُ العارفين، واستيثاقُ الحكماء، ومرارًا كان يُسأل فيسكتُ هُنيهةً ثم يقول: لم تمرّ بي هذه المسألة، أو سأبحث فيها.
وهو رجّاعٌ إلى الحق، وإن كان من تلميذ، أنشد يومًا هذا البيت الذي يتمثّلُه النحويون في باب الاسم الموصول:
أسِرْبَ القطا هل من يُعيرُ جناحَه
لعلي إلى من قد هَوِيتُ أطيرُ
فأنشده: (هَوَيتُ) بفتح الواو، فقلت: (يا أستاذ، أليس الصحيح: هَوِيتُ بكسر الواو؟) فما أجابَ إلا بقوله: أحسنتَ، وبارك الله فيك، هو ما قلتَ.
ولي معه خبرٌ آخر يؤكّد رحابةَ صدره وتشجيعَه للاجتهاد في الرأي، إذْ خالفتُ إعرابَ بعض النحاة لكلمة في هذا الشاهد:
يا أيها المائِحُ دلوي دونكا
إني رأيتُ الناسَ يحمدونكا
ويُستشهَد به على تقديم مفعول اسم الفعل (دونك)، فقلت للشيخ: ألا يكون (دلوي) مبتدأ، و(دونك) متعلقًا بالخبر المقدَّر، أي دلوي كائنٌ دونك؟ فأعجبه ذلك وأثنى على اجتهادي.
وفي الاختبار جاء بذلك الشاهد، وطلب بيانَ موضعِ الاستشهاد، فذكرتُ كلامَ النحاة وعقَّبتُ باجتهادي (وتبيَّن لي بعدُ أني لستُ أبا عُذرتِه). ولما صلينا الظهرَ في آخر يوم من أيام الاختبارات، رآني أخونا د. تركي بن سهو العتيبي، سلّمه الله، فقال: حين قرأتُ إجابتَك على الدكتور المفدى قال: هذا عبدالله. وكانت الأسماءُ حينذاك تغطّى؛ طلبًا للنّزاهة، وليتها تعود.
وكانت طريقته في الدرس، أن يستظهرَ ما حفظ من متن (أوضح المسالك) ومن الألفية، أو يأمرَ أحد النُّجَباء بالقراءة، ثم يشرحَ ويعلّق، وكان يعيّن يومًا نطالعُ فيه كتابَ (الكامل للمبرد) ليشفعَ العلمَ بالعمل.
وللمفدّى -رحمه الله- حافظةٌ عجَبٌ، يحفظُ أسماءَ الطلاب وأرقامَهم أولَ وَهْلة، ويعرفُهم من أصواتهم، ولم يكنْ ينسى إغلاقَ الباب حتى لا يتغافلَه أحد، ولكنّ ذا الحيلة لا بدّ أن يحتال، أذكرُ أن أحدَنا -وكان من الأغفال الذين حالُهم سيانِ إن حضروا أو غابوا- بعد أن كُتب اسمه في الحاضرين، تسلّل لواذًا، والشيخُ منهمكٌ في الدرس، فتسوَّر النافذةَ وولّى مدبِرًا، وكنا متواطئين على الكتمان، عفا الله عنا.
ومن دأبِه أن يحملَ عصًا تلازمه أبدًا، فيتهدّى بها، فإذا دخل القاعةَ طواها، وأدخلها في الدُّرج، وقبل أن يهدأَ نفَسُه يسرُدُ الأرقام، ويأمرُ أحدَنا بتقييد أسماءِ الغائبين، فإذا سمع أحدُنا رقمَه رفع صوتَه ذاكرًا اسمَه.
وكان مهيبًا هيبةً جعلت أحدَ الطلاب يخطّ لسانَ حالِ الطلاب على الجدار الخلفي لإحدى القاعات:
خفّف الوطءَ فالمفدّى سميعُ
كلّ ماشٍ لديه سوف يضيعُ
ومما يُلطَفُ به في هذا المقام، أن أحدَ الأصدقاء أخفق في مقرّر (الصرف) عند المفدّى، ثم نجح بعد اللتَيّا والتي، فداعبتُه بقصيدة منها:
لم أصدّقْ مقالهم
يومَ قالوا (تخرّجا)
ذلك الصاحبُ الذي
كان بالأمسِ أعرجا
يحملُ (الصرفَ) والهموم
على القلبِ وُلّجا
ولكم زاره المفدّى
بنومٍ فأزعجا
كاشرًا عن نُيوبِه
قائلًا يقطعُ الرجا:
خبّروه بأنني
(لا نجوتُ إذا نجا)
وفي عنفوانِ سلطان المفدّى العلمي، وفي أثناء رئاسته قسمَ النحو والصرف، استفاضت بين الطلاب ومنسوبي الكلية كلمةٌ أرسلَها طالبٌ ظريفٌ مشهورٌ بطول مُكثه في الكلية، لكثرة ما رسب وحذف من الفصول، إذ قال: (ينبغي أن يُنحَت تمثالٌ للمفدّى ويوضعَ على مدخل الكلية)، وهذا الشقيّ المشاغبُ ذو بدَواتٍ وأوابدَ في القول والفعل، رآه وكيلُ الكلية يومًا يتسكّع في بعض الأسياب، فناداه: غيابُك كثير! أين كنت؟ فأجاب رافعًا صوتَه بلا حياءٍ: كنتُ في (بتايا) أبحثُ عن التراث العربي! (والكلامُ عن هذا الطالب من الفضولِ الذي أركَسَتْني فيه شهوةُ الذكرى).
وشاعت بين الطلاب قصيدةٌ في هجاء المفدّى، مطلعُها:
جوهرُ النحو تردّى
في متاهاتِ المفدّى
وزُعِم أني قائلُها؛ اتّكاءً على ما وقع بيني وبين قسم النحو والصرف من خلاف، بعد مقالتي العاصفة (يا معشرَ النحاة أكلتكم البراغيث)، والله العليمُ أني لم أقلْها، وهي من الشعرِ العائرِ مجهولِ القائل حتى ساعتي هذه.
بل إني -على خلاف ما يُقال عن اضطرابِ علائقي به- أثنيتُ عليه ونظمتُ أبياتًا مدحته بها، وهي لائقة بشابٍّ يفَعٍ في الحادية والعشرين، نُشِرت في صحيفة حائطية في الكلية، إبّان كانت في مبناها القديم في الناصرية، وهي هذه:
تمارى اثنانِ في فعلٍ تبدّى
وكلٌّ يدّعي الرأي الأسَدّا
فزيدٌ قال: ذا فعلٌ لَزومٌ
وعَمْروٌ قال: بل فعلٌ تعدّى
وإن خالفتني وأبَيتَ رأيي
فدونَك فاسأل الشيخ المفدّى
أخو جلَدٍ إذا ما رام بحثًا
وإن عاشرتَه ألفيتَ شَهْدا
وبعد بضعة أيام من نشرها، استوقفني الدكتور تركي بن سهو، وكنا خارجين من مصلّى الكلية، فسألني: من قائلُ الأبيات؟ ووقع في قلبي أنها ساءت قومًا، فقلت: أنا، فقال: معي قصيدة (هذا طولها) في الردّ عليها -ومدَّ ذراعه باسطًا كفَّه- فظننتُ أن بعضهم ردّ عليّ بهجائي وهجاء شيخي المفدّى، فلما أخرج أبو عمر (تركي العتيبي) الورقةَ وأطلعني عليها، إذا فيها قصيدةٌ للمفدّى نفسه يعارضُ بها مقطوعتي، ويثني على الطلاب، ويأمُلُ فيهم الخيرَ، وهي طويلة مطلعها:
أرى كرمًا تبيَّن واستعدّا
ونُبْلًا في الشبيبة قد تبدّى
تنادوا للعُلا فسعَوا إليها
ألا فلْيبلغُوا الأملَ المُفدّى
ويبدو أنه كان يشعرُ بثقَل محاضراته، لأنها في علمٍ عميقِ الغور كثيرِ بُنيَّاتِ الطريق، وهو محبٌّ للتجويد، مؤثِرٌ أن يفيدَ التلاميذ ما استطاع، ولذلك كان -على صرامتِه- لطيفَ المعشر، لا يمنع نفسَه إطرافَ الطلاب بما يزيلُ السآمةَ، فمن ذلك أنه لما تكلم على (حروف الزيادة) أورد أنها مجموعةٌ في قولهم: (سألتمونيها)، و(هناءٌ وتسليم)، وأردف: وجمعَها بعضُهم في (هِويتُ السِّمانَ)، وأنشد:
هوِيتُ السِّمانَ فشيّبْنني
وما كنتُ قبلًا هوِيتُ السِّمانا
وكان يهتبلُ الفرصَ لإمتاع الطلاب، بطرائفَ من الضربِ الرَّكِين، الذي يسرّي ولا يُعرّي، ويُطَرّي ولا يُجَرّي، عرَض له في بعض محاضراته لفظ (إصبَع)، فقال: إن فيه عشرَ لغات، وأوردها كلَّها، ثم أضاف متبسِّمًا: ومنها (مِصْبِع)، وقد يُقال: (فِنْقَر)! وتلك اللحظات التي يلبسُ فيها المفدّى الوجهَ الباسم والروحَ المرحةَ أندرُ من الكبريتِ الأحمر.
وسُئل يومًا عن صرْفِ اسم (يزيد)، فغلبني حسُّ المناكفة، وكنت جريئًا في هذه المواقف جراءةَ غرٍّ يخامرُه طيشُ الفتوّة، فقلت: يا أستاذي، سليقتي تقبلُ صرفَه، فقال بلا تردّد ولا تلدّد: «يا بُنيّ، سليقتك منسلقة»، فضحك الطلاب، وضحكتُ في نفسي على نفسي.
وكنتُ نشرتُ، إبانَ تدريسه إيانا، في (مرآة الجامعة) مقالًا بعنوان (يا شيخي الكريم، ما هكذا تورَد الإبل)، نعيتُ فيها على بعض الأساتذة طرائقَهم المملّة، ويبدو أنه قُرئ على المفدى، فإنه لما فرغ من إحدى المحاضرات، قال: أين ابن رُشَيد؟ قلت: لبّيك، قال: تعال معي، فخرجت معه ممسكًا بيده، وصعد بي (أو صعدتُ به) إلى مكتبه في الطابق الثاني -في مبنى الناصرية- فلما قعد وقعدت، قال: قرأت مقالَك، وشعرتُ بأن بينك وبين أحد الأساتذة أمرًا، فإن كان ثمَّ شيءٌ فأخبرني. وأتبعَ كلمتَه هذه بالثناء عليّ، وأني من التلامذة الذين يجبُ ألا يُعَرَّضوا لما يضايقُهم. فنفَيتُ أن يكونَ بيني وبين أحدٍ شيء، وكأنه أصرّ بعضَ الإصرار، فلم أبُحْ باسم أحد، والحقّ أني لم أعْنِ أستاذًا بعينه، وإنما كنتُ أنتقدُ الطريقةَ فحسب. ولعله -رحمه الله- ظنّ أنه هو المعْنيّ، لما يسمعُ من تذمّر الطلاب من شدّته وطريقتِه في التدريس، وكان ختامُ جلستنا أن قال: أردتُ الاطمئنانَ إلى أنه لا يقعُ إهمالٌ من بعض الأساتذة.
وأنا أقدّر أنه حار في مرادي، أهو المعنيُّ، أم المعنِيُّ أستاذٌ آخر من القسم الذي يرأسُه؟ وهو في الحالتين كلتيهما محسِنٌ بهذه العناية وذلك الاهتمام، فإن كان هو المقصودَ، غيّر من طريقته، وإن كان غيره نبّهه.
كانت صورة محمد المفدى، رحمه الله، عند الطلاب صورةَ المتشدّد المتزمّت، وأشهدُ أنه كان يتشدّد؛ إكبارًا للعلم، ورغبةً في مصلحة الطلاب، وربما لم يُعجَب بعضُهم بطريقته في رئاسة القسم، وعلائقه بزملائه وطلابه، ولكنه في مجمل أحواله رجلٌ نقيّ صالح، مخلصٌ ذو فضل وتُقى وإقبال على الله، هيئتُه هيئةُ الأشياخ، وسمْتُه سمْتُ العلماء، وأحسبُه من أشدّ الناسِ إخلاصًا لعلمه وقيامًا بواجباته. نقل لي بعضُهم أن الشيخَ ابن مُقَيرن، -رحمه الله - وكان إمامَ مسجد (سارة) في البديعة، وبيتُ المفدّى القديم يجاورُه- يذكر أن الشيخ المفدّى لا يبرحُ روضةَ المسجد، محافظًا على الجماعة، ملازمًا المسجدَ ما استطاع.
وكان، عفا الله عنه، رأسَ من اعترضوا على نقلي إلى قسم الأدب (المسمى الآن قسم الأدب والبلاغة والنقد) سنة 1408هـ (1987م)؛ لأن تعييني كان في قسم النحو والصرف الذي يرأسُه، فما كان مني إلا أن قصدتُه في بيته في حي البديعة، وصلّيت معه الظهر في أحدِ الأَخْمِسة -وكان الخميسُ إجازةً- وسلّمت عليه، وقبّلت رأسَه، وأخبرتُه أني جئتُه لمناقشتِه في موضوعي، فرحّب وضيّفني، وفي جلسة لم تجاوزِ الساعةَ في مجلسه لم أستطعْ زحزحَتَه عن رأيِه، وخرجتُ خائبًا، دون موجِدةٍ عليه.
وكنتُ نابيَ الهمّة عن التخصص في النحو على حبّي إياه، وطربي للقراءة فيه، راغبًا في قسم الأدب، والقسم راغبٌ فيَّ، ولم أفسِّرْ إصرارَه إلا بالحرصِ على ألا يخسرَ قسمُه الوظيفةَ التي كان أحوجَ إليها من قسمِ الأدب.
ثم كان، رحمه الله، رأسَ المعترضين على نقلي من الأحساء إلى الكليةِ معيدًا، بعد أن نُشرت مقالتي (يا معشرَ النُّحاة، أكلتكم البراغيث)، ومع ذلك كلِّه بقيتُ أرى فيه الأستاذَ الجادّ الذي لا يلهثُ في منافعِ نفسِه، ولا يُسِرُّ حَسْوًا في ارتغاء، ولا يفرّطُ في أداء ما نِيطَ به، من رئاسة قسم وتدريس وإشراف، على خيرِ ما يراه هو مبْرئًا لذمّته.
وكان أن دعوته إلى حفل زواجي، في الثالث من محرم سنة 1410هـ (الرابع من آب 1989م) فحضر، ولما تيسَّرت عودتي إلى الكلية، في شهر ربيع الأول من سنة 1413هـ (أيلول 1992م)، ظللتُ أقدّره، ولا أدعُ المرورَ بمكتبه والسلامَ عليه. وبعد أن تقاعد ونُظّم حفلٌ لتكريمه سنة 1428هـ -(2008م)، وتداعى المحتفِلون إلى إصدار كتابٍ تكريمي بعنوان (المُفَدّيات)، تُنشر فيه بحوثٌ عنه وبحوثٌ مهداةٌ إليه، بادرتُ إلى تزويد القائمين على المشروع ببحثي المعنون بـ(تحقيق المرويات الأدبية، ضرورتُه ومنهجُه). غير أن ذلك المشروعَ نُسي أو تنُوسي، أو وُئِد.
رحم الله الشيخ محمدًا المفدّى وجزاه خيرَ ما جزى العلماء العاملين.