د.زكية محمد العتيبي
تقدّم (الرؤية اللوكاتشية) في كتاب ( الرواية التاريخيّة ) لجورج لوكاتش أحد أهم الأطر لفهم الرواية التاريخية، إذ يرى جورج لوكاتش أنّ هذا الجنس السردي لا يكتفي بنقل الماضي نقلاً وثائقياً، بل يعيد إحياء روح العصر عبر تمثيل القوى الاجتماعية والفكرية التي شكّلت زمن الحدث؛ فالرواية التاريخية، وفق رؤيته، تقع في منطقة وسطى بين التوثيق الذي يستند إلى حقائق تاريخية موثوقة، والتخييل الذي يملأ فراغات الذاكرة ويمنح النص حيويته الإنسانية.
ونجاح الرواية التاريخية مرهون بقدرتها على المواءمة بين هذين القطبين دون أن تطغى المادة التاريخية على الفن، أو يتحوّل الخيال إلى فانتازيا منفصلة عن الحقيقة.
وقد وضع لوكاتش في كتابه معايير الرواية التاريخية الجيدة على النحو التالي:
1 - إعادة خلق اللحظة التاريخية لا استنساخها.
2 - أن تكون الشخصيات نموذجاً لوعي عصرها.
3 - أن يتشكّل مصير الفرد داخل حركة المجتمع وصراعاته.
4 - إبراز روح العصر لا زخارفه الخارجية من ملابس ولهجات.
5 - رؤية تاريخية واقعية تمنع عزل الفرد عن سياقه الاجتماعي.
6 - فهم التاريخ كتحوّل وصيرورة لا كسلسلة وقائع جامدة.
7 - عدم إسقاط وعي الحاضر على الماضي.
8 - جعل الحدث التاريخي جزءاً بنيوياً من السرد لا مجرد خلفية زخرفية.
هذه المعايير شكّلت أساس القراءة النقدية لرواية (مسرى الغرانيق في مدن العقيق) للروائية السعودية: أميمة الخميس؛ فهي تشكّل نموذجاً عربيّاً ناضجاً يستجيب بكفاءة لهذه المعايير؛ فهي تستحضر القرن الرابع للهجرة بوصفه مرحلة مفعمة بالتحوّلات الفكرية والصراعات الكلامية وتشكل السلطة العباسية، وتُعيد صياغته من الداخل لا بوصفه مسرحاً للزينة التاريخية بل كمحاولة للإجابة عن أسئلة الحاضر؛ فيظهر التاريخ في الرواية قوّة محركة للسرد، من خلال توتر العلاقة بين السلطة والمخالفين فكرياً، وتعدّد طرق الحج والتجارة والمعرفة التي تربط الأمصار.
كما يتجلى معيار الوعي في بطل الرواية (مزيد) الذي صُمِّم نموذجاً للمثقف الجوّال الباحث عن الحقيقة؛ فهو شخصية متخيّلة، إلا أنها منسجمة عضوياً مع روح العصر، تتحرّك داخل توتره الفكري بين المعتزلة والفقهاء والمتصوفة، فيتحوّل وعيها من فردي محدود إلى وعي تاريخي يعكس قلق الجماعة وأسئلتها الوجودية.
وقد حققت الرواية التوازن الدقيق بين التوثيق والتخييل؛ فالمدن (بغداد، دمشق، القدس) تُقدَّم بوصفها فضاءات مكتملة تاريخياً واجتماعياً، والشخصيات الفكرية تُستدعى بروحها الجدلية لا كرموز جامدة. وقد أصبح الحدث التاريخي جزءاً من البناء الروائي، موجّهاً حركة البطل وتنقله الفكري والوجودي.
أما اللغة في الرواية فتمثّل عنصراً جمالياً تاريخياً، إذ جاءت بنَفَس يَشِي بالعصر دون تقليد أسلوبي قديم، فحققت ما يسمّيه لوكاتش (الواقعية العضوية)؛ أي: اتساق اللغة مع الزمن الروائي ومع حساسيته الفكرية. كذلك لم تُفرض الرموز مثل: (الغرانيق، الرحلة) على النص، بل انبثقت من صميم التاريخ ومن طبيعة الصراع بين العقل والسلطة، والتصوف والعقلانية، والمجتمع والسلطة المركزية؛ ما جعل الرواية تمثّل أحد النماذج المتقدمة عربياً للرواية التاريخية بالمعنى(اللوكاتشي)؛ فهي تعيد الماضي قوةً حيّة تتحرك عبر تناقضات المجتمع، وتمنح الفرد موقعه داخل التاريخ لا خارجه.
وبفضل لغتها، وحوارها الفكري، وقدرتها على تمثيل روح العصر وصراعاته، جاءت الرواية مثالاً على السرد الحيّ الذي يحول التاريخ من أرشيف جامد إلى سؤال إنساني مفتوح، يعيد للقارئ وعيه بذاته وبتاريخ أمّته.
** **
- أستاذة النقد والبلاغة