أ.د.عمر بن عبدالعزيز المحمود
في عالمٍ يفيض بالضجيج وتتراكم فيه الكلمات حتى تفقد معناها، يبرز (الصمت) بوصفه قيمةً جماليةً وفكريةً تستحق التأمل، فـ(الصمت) ليس فراغًا كما يبدو، بل هو امتلاءٌ من نوعٍ مختلف، لغةٌ تتشكّل خارج حدود اللفظ، وتمكّن الإنسان من رؤية ما لا تراه الأعين حين يسيطر الكلام على المشهد. وفي زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات إلى حدّ يبهت معه كل معنى، يصبح (الصمت) فعل مقاومة، ومساحةً لاستعادة التوازن بين الإنسان والعالم، بين التعبير والإصغاء، بين الحضور والغياب.
لقد عرف الإنسان منذ بداياته أن (الصمت) شكلٌ من أشكال القول؛ فعندما يصمت المحبّ أمام من يحب، يكون صمته أبلغ من بوحه، وعندما يقف صديق إلى جوار صديقه الحزين دون أن يكلّمه، فإن حضوره الصامت يعبّر عن مواساة لا تبلغها الجملة المنمّقة، بل إن لحظات المفاجأة والحزن والهيبة تفرض علينا صمتًا لا يعكس عجزًا عن الكلام، بل عمقًا يفوق طاقة العبارة.
والبلاغة العربية القديمة، وإن لم تفرد (للصمت) بابًا مصطلحيًا، فقد أدركتْه ضمنيًا في الحذف والإيجاز والكناية والتعريض، أي في كل ما يجعل الكلام مكتملاً بما لا يُقال، فالمعنى عند العرب لم يكن أسير اللفظ، بل رهين مطابقته لمقتضى الحال، والحال قد يستدعي الكلام أو السكوت على حدٍّ سواء، فـ(الصمت) المدروس ليس نقصًا أو حيادًا، بل هو وعيٌ بحدود اللغة، وثقةٌ بقدرة المتلقي على أن يشارك في صناعة الدلالة.
وفي التواصل الإنساني يظهر (الصمت) في أعمق صوره، فكثيرٌ من سوء الفهم بين الناس لا يأتي من قلة الكلام، بل من زيادته؛ إذ يتورّط الإنسان في شرح ما لا يحتاج إلى شرح، أو يبرر ما لا يحتاج إلى تبرير؛ لذلك نجد أن الحضور الصامت، في لحظات التوتر أو الفرح أو المصالحة، أكثر تعبيرًا وحميميةً من كل خطاب، فـ(الصمت) لغةٌ مشتركةٌ بين البشر، يتغيّر معناها بحسب السياق، لكنه يظل يشير إلى ما تعجز عنه الحروف: الاحترام، الحذر، العطف، أو حتى الرفض.
وفي الشعر، يأخذ (الصمت) بُعدًا جماليًا صريحًا، إذ يصبح (البياض) جزءًا من البنية الإيقاعية والدلالية للنص، يترك الشاعر فراغًا ليملأه القارئ، فيتحوّل الغياب إلى منطقة إشعاعٍ للمعنى، فالكلمة الشعرية لا تستنفد الحقيقة، بل تشير إليها، وتترك ما تبقّى (للصمت)، وهكذا يتحوّل (البياض) إلى لغة، ويتحوّل القارئ إلى شريكٍ في إنتاج المعنى، ومن المعلَّقة التي تبدأ بوقفةٍ على الطلل، إلى القصيدة الحديثة التي تعتمد على الإيماء والفراغ، ظلَّ (الصمت) عنصرًا بنيويًا في الشعر العربي.
وإذا انتقلنا إلى النقد والفكر، وجدنا أنَّ (الصمت) يتحوَّل إلى أداة كشف، فما يسكت عنه النص، أو يستبعده، أو يهمّش حضوره، لا يقلُّ أهميةً عمّا يُصرّح به؛ بل يُشكّل جزءًا أساسًا من دلالته، وقد تحوّل (المسكوت عنه) إلى مفهومٍ نقديٍّ يبحث فيما تُخفيه الخطابات، وفيما تشير إليه من وراء حجاب، ليتأكد أن الغياب ليس ضعفًا في النص، بل طاقة دلالية تكشف للناقد ما لا تبيّنه العبارة.
وفي الفنون والسرد يكتسب (الصمت) حياةً جديدة؛ فاللوحة التي يترك فيها الفنان مساحةً بيضاء، أو المشهد السينمائي الذي يستمر قليلًا بعد انتهاء الحوار، أو القصة التي تعتمد على الحذف والتلميح، كلها توظّف (الصمت) بوصفه لغةً موازية، تمتدّ فيما وراء الكلمات والألوان، والفنان المبدع يعرف متى يتوقف، ويعرف أن الجمال يتنفّس عبر الفراغ، وأن المعنى أعمق من أن يُحصر في صياغةٍ مباشرة.
ولعلّ أجمل ما في (الصمت) أنه مهارةُ إصغاءٍ قبل أن يكون مهارةَ قول، ففي عالم تتسابق فيه الأصوات، ويتقلّص فيه زمن الإصغاء، يصبح (الصمت) فعل وعي، يتيح للإنسان أن يفهم قبل أن يتكلم، وأن يُقدِّر قبل أن يحكم، وأن يتأمّل قبل أن يُقرّر، (الصمت) هنا ليس هروبًا من المواجهة، بل مواجهة من مستوى آخر، مواجهة مع الذات ومع الوجود.
(الصمت) ليس نقيض الكلام، بل شريكه الخفيّ، وظلّه الذي يمنحه عمقه، فمن غير (الصمت) يفقد القول أثره، ومن غير التوقّف تفقد الجملة موسيقاها، ومن غير (البياض) تفقد القصيدة بريقها، (الصمت) هو ما يجعل اللغة ممكنة، وهو ما يعيد للإنسان حضوره في عالم يزدحم بما لا ينتهي من الأصوات.
ما يُقال مهم، لكن ما لا يُقال هو الأهم أحياناً؛ لأنه هو الذي يضيء المعنى، وهو الفضاء الصامت الذي تتشكّل فيه الحقيقة قبل أن تخرج إلى اللغة.
** **
oasm1401@