عبدالله العولقي
ركبَ المُثقِّب العبْدي فرسه وسارَ مُنْطلقاً إلى مَلكِ العربِ عمرو بن هند، فقدْ بلغَته الأخبارُ أنَّ كثيراً مِنْ أبناءِ قبيلتهِ قدْ وقعوا أسرى بين يدَي الملِك، فذهبَ يسْتَشْفِعُ لبني قومه مُسْتفيداً من علاقته ومعرفته بصديقهِ عمرو بن هند الذي مدحه كثيراً منْ قبلِ:
إِلى عَمروِ وَمِن عَمروٍ أَتَتْني
أَخى النَجداتِ وَالحُلُمِ الرَّصينِ
وهنا يأتي التساؤلُ حولَ سببِ تسميتهِ بالمُثّقِّبْ، فتذكرُ كتبُ التاريخِ والأدبِ أنّ اسمَه الحقيقي هو عائذ بن محصن بن ثعلبة العبدي، وقدْ لقّبوه بالمُثقِّب لبيتهِ الشهيرِ الذي يصفُ فيه نساءً رآهنّ راكباتٍ على هوادجِهنّ وقدْ أسدلْنَ على وجوهِهنّ أقمشةً مزخرفةً ثمّ ثقّبْنَ أغطيتهنّ للرؤية، فيقول:
ظهرْنَ بِكُلّةٍ وسَدَلْنَ رقْمَاً
وثَقّبْنَ الوصَاوِصَ للعُيُونِ
فذهبتْ عليه كلمة المُثقِّب مُذْ قالَ هذا البيت، وهو من قصيدةٍ بديعةٍ سنتعرّضُ لها في هذا المقال، ومِنَ الجديرِ بالقولِ أنّ شاعرَنا المُثقِّب ينتمي إلى قبيلةِ بني عبد القيس الشهيرة، تلك القبيلة العريقة التي كانتْ تمتدُّ فيما كان يُسمّى قديماً ببلادِ البحرين، وهي المنطقةُ التي تشملُ اليوم شرق الجزيرة العربيّة، وقد عُرف المثقّبُ بين قومه بأصَالته الانسانيّة ونبَالته الأخلاقيّة، وتذكرُ كتبُ التاريخ أنّ له ابن أختٍ يُلقّبُ بالمُمزّق العبدي، واسمه: شأس بن نهار العبْدِي، وقد اُشتهر مثلَ حكايةِ خالهِ ببيت شعرٍ يقولُ فيه:
فإنْ كُنتُ مأكولاً فكنْ خيرَ آكلٍ
وإلّا فادّركْني ولمّا أُمزِّقِ
فأطلقوا عليه لقبَ المُمزّق، وهذه منْ أساليبِ ثقافةِ القبيلةِ العربيّة للتمييز بين أبنائها بإطلاقِ الألقابِ عليهم!، وقد كانَ المُمزّقُ فتىً شجاعاً إلى درجةِ التهور، وعندما أسرهُ خالدُ بن أنمار بن الحارث، وهو أحدُ شيوخِ القبائلِ حينها سار إليه المُثقّبُ لافتداء ابن أخته، فظلّ يمدحُ خالداً حتى وهبه الممزق وفكّ أسره:
إنّما جادَ بشأسٍ خالدٌ
بعدما حاقتْ بهِ إحْدى الظُّلمْ
منْ منايا يتخاسين بهِ
يبْتدرْنَ الشخصَ مِنْ لحْمٍ ودمْ
أمّا خالداً فهو:
مُتْرعُ الجفْنةِ رِبْعيُّ النّدى
حَسَنٌ مجْلسُه غيرُ لُطَمْ
يقولُ الدكتور ناصر الدين الأسد عنْ نونيّة المثقّب العَبْدي أنّها إحدى المعلّقاتِ الشهيرةِ في الجاهليّة، حتى وإنْ لمْ تكنْ ضمنَ القصائد السبع التي اختارها حمّادُ الراوية، فهي أهمّ شعره وأرقى ما في ديوانه، وقد طارتْ بها الركبانُ لفصاحتِها وبيانِها، ولشدّةِ تأثيرِها في النفوسِ والخواطِر، وقد قال عنها أبو عمر ابن العلاء: ولو كانَ الشعرُ مثلها لوجبَ على النّاس أنْ يتعلّموها، وهي انعكاسٌ جليُّ لشخصيّة المُثقّب العبدي، فهو شخصيّةٌ حادّةٌ جداً، فمنذُ البيتِ الأولِ وهو يخاطبُ محبوبتَه فاطمة بالجدالِ المنطقيِّ العنيف، ويطلبُ منها أنْ تمتّعه بالحديثِ معه قبل الرحيل:
أفاطمُ قبل بَيْنِكِ متّعِيني
ومنْعُكِ ما سَألتُ كأنْ تبيني
لترتفعَ الحدّةُ والتوترُ في شخصيّته أكثر عندما يقول:
فإنّي لوْ تُخالفُني شِمالِي
خلافكِ ما وصلتُ بها يميني
إذنْ لقطعْتُها ولقلتُ بِيني
كذلك أجْتوي منْ يجتويني
وكعادةِ الشعراءِ الجاهليّين في تصويرِ رحلاتهم ومحطّات أسفارهم، يسْردُ لنا المُثقّبُ العبدي رحلته، فيذكرُ تلك المواضع والأماكن التي مرّ بها في طريقه كموضعِ شَرَافِ وضُبَيبِ وذاتِ هجْلٍ والذّرانح:
لِمَنْ ظُعُنٌ تَطَلَّعُ مِن ضُبَيبٍ
فَما خَرَجَتْ مِنَ الوادي لِحينِ
مَرَرنَ عَلى شَرافِ فَذاتِ هجلٍ
وَنَكَّبنَ الذَرانِحَ بِاليَمينِ
لينتقلَ بعدها إلى وصفِ النّسوةِ اللاتي يركبنَ الهوادج على الإبل، فيُشبّهُ حركةَ النُّوقِ في الصحراء مثلَ حركةِ السفنِ في البحر:
وَهُنَّ كَذاكَ حينَ قَطَعْنَ فَلْجاً
كَأَنَّ حُدُوجَهُنَّ عَلى سَفينِ
يُشَبَّهنَ السَفينَ وَهُنَّ بُختٌ
عُراضاتُ الأَباهِرِ وَالشُؤونِ
وهنا يستحضرُ المثقّبُ لوحةَ الظعائن التي كثيراً ما يُقْرنُها الشاعرُ الجاهليُّ بتشبيه المرأة بالغزال، وتحديداً بتلك العيون الساحرة التي تفتكُ بالشُّجاعِ المُسْتكين، وهنا نلاحظُ صورَ الحركة داخل الأبيات وهي تتوالى بمشاهد إبداعيّة أمام المتلقي، مثل صورة النساء وهنّ يقطفن الثمارَ أثناءَ مرورهنّ بين الأشجار:
وهُنّ على الرجائزِ واكِنَاتٌ
قواتلُ كلِّ أشجعَ مُسْتكينِ
كغِزْلانٍ خذلْنَ بذاتِ ضالٍ
تنُوشُ الدانياتِ من الغُصُونِ
ويستمرُّ هذا الشاعرُ الفطريُّ بوصفِ فتنته بالأنثى بين عاملي: النّور والظلام، أيْ في النهارِ الذي يُبْرِزُ لمعانَ الذهبِ على الصدور الفاتنة، وفي الليلِ الذي يكشفُ ذوائبَ الشعَر الجميلة:
ومنْ ذهبٍ يلوحُ على تريبٍ
كلونِ العاجِ ليسَ بذي غُضُونِ
وهُنّ على الظلامِ مُطَلّباتٌ
طويلاتُ الذوائبِ والقُرونِ
وقدْ عابَ النقادُ المعاصرون على القصيدة الجاهلية عموماً غياب الوحدة الموضوعيّة عنها، بينما الحقيقة أنّ هذهِ القضيّة ليستْ عَيباً، وذلك أنّ هذا المعيارُ يستندُ في أساسهِ إلى الثقافةِ الغربيّةِ ولا يجوزُ تطبيقه على تراثنا العربيّ بصورةٍ كاملةٍ.
وقدْ وقعَ العديدُ من النقاد في فخِ الانهزاميّة الثقافيّة تجاه الغربِ وكأنّ تراثنا تغيبُ عنه الجماليّة الفنيّة الابداعيّة، ولذا علينا أنْ نتقبلَ تراثنا الأدبيِّ والثقافيِّ كما هو في إبداعيّته دونَ إخضاعهِ لأيّ معاييرٍ خارجَ النسقِ الثقافيِ العربي، فكما أنّ نتاجَ التراثِ الأدبي الغربي يخضعُ لمعايير الثقافة الغربية فلا بدّ أنْ يكونَ الأمرُ كذلك مع تراثنا العربي، وهذا لا يمنعُ إطْلاقاً من الاطلاعِ على كلِّ الثقافاتِ الشرقيّة والغربيّة والاستفادة من حركاتها النقديّة ولكنْ دونَ الوقوعِ في فخّ الانهزاميّة الثقافيّة واخضاعِ المحتوى الأدبي لأيّ معاييرٍ لا تتلاءمُ مع طبيعةِ التراثِ العربيِ لأنّ النتيجةَ ستكونُ خاطئةً بالطبع، مثلما جاءتْ دراساتُ الدكتورِ طه حسين حول حقيقةِ الشعرِ الجاهلي، فهو يعتبرُ نونيّة المثقّب العبدي من القصائد المنحولة في العصرِ الأُموي، فقال إن أبياتها تميلُ كلّ الميلِ إلى اعتقادٍ أنها مُولّدة مصنوعةً لمْ تصدر عنْ شاعرٍ قديم، فكانت حجّتُه تستندُ إلى سهولةِ ألفاظها التي لا تتواءمُ مع طبيعة العصر الجاهلي وتكادُ تقتربُ من طبيعةِ الألفاظِ المتداولةِ في العصرِ الإسلامي، وهذه الحُجّةُ واهيةٌ لأسبابٍ كثيرة، ولعلَّ أحدَها أنّ هؤلاء الرواةِ الذين اُتّهموا بنحْلِ القصيدةِ على لسانِ المُثقّب العبْدي كيف لهمْ أنْ يأتوا بقصيدةٍ بعيدةٍ عنْ أجواءِ العصرِ الجاهلي؟، خصوصاً أنهم عاشوا في العصر الأُموي وهو عهدٌ قريبٌ للزمنِ الجاهلي، بمعنى أنّ المجتمع العربي بثقافته الشعريّة وذهنيّته الأدبيّة لمْ يكنْ سيقبلُ بهذا التزوير الأدبيّ الواضح حينها!، بلْ كانَ سيرفضُ قصيدةَ المثقب فورَ ادّعاءِ الرُّواة أنّها له، ولمْ تكنْ هذه العقليّة لتنتظر كلّ هذه القرونِ الطويلةِ حتى يأتي الدكتورُ طه حسين ويكتشفُ ذلك!، وهذا قطعاً لا ينفي وجود قضية النحلِ في أدبنا العربي ولكنْ ليسَ بالصورة التي تنفي حقيقة وجود الشعر الجاهلي بصورةٍ كاملةٍ ومنها نونيّة المثقّب، وأيضاً هناك مسألةٌ أخرى تتعلقُ بتلك الدراساتِ النقديّةِ التي خرجتْ لنا بنتيجةِ ضعفِ خيالِ الشاعرِ الجاهليِّ وتشتتِ تفكيرِه بسببِ غياب الوحدة الموضوعية للقصيدة، بينما الحقيقة أنّ تعددَ الأغراض الفنيّة داخل القصيدة الجاهليّة هو جزءٌ أساسيٌّ من الثقافةِ العربيّةِ ولا يُمكنْ أبداً اخضاعه لمعيارٍ خارجي، وقدْ حاولَ نقادٌ متأخرون أنْ يجدوا وحدةً أرى للقصائدَ الجاهلية غير مفهوم الوحدة الموضوعيّة مثل الوحدة النفسيّة أو الوحدة الدلالية أو الوحدة الفنيّة، وهذا الأمرُ مقبولٌ نسبيّاً كونه يستندُ إلى مفهومٍ نقديٍ عام، وقدْ استدلوا أنّ نونيّة المثقب العبدي تستندُ في سرديّتها الفنيّة إلى مفهوم الوحدة النفسيّة، فالقصيدة التي تقعُ في حوالي 46 بيتاً من بحر الوافر تخضعُ أنساقها المضمرة إلى اضطرابِ الحالةِ النفسيّة عند الشاعر، فموسيقى الوافر تبثُّ صخباً يتوافقُ مع فورانِ الغضبِ داخل النّص، فهناك قلقٌ مأزومٌ من رحيل صديقته فاطمة وذهابها عنه، وهو متوترٌ أيضاً من مصيرِ علاقتِه مع صديقِه عمرو بن هند، ولذا جاء خطابُه الشعريّ يتمحورُ حولَ موضوعِ الأخلاق، فقدّم ذاته المتمسّكة بقيم الأخلاق بصورةٍ حادةٍ جداً، فقدْ يصلُ به الحالُ إلى قطعِ يده الشمالِ إذا خالفَتْ يمينَه التي تصلُ محبوبته:
فإنّي لوْ تُخالِفُني شِمالي
خِلافَكِ ما وصلْتُ بها يميني
إذاً لقطعْتُها ولقلْتُ بِينِي
كذلك أجْتوِي مَنْ يجْتويني
كما يصلُ به توتّر الحالِ مع صديقِه عمرو الذي رأى فيه تبدّلاً وانحرافاً في أخلاقه معه إلى تقديم خطابِ تهديدٍ مُبَطَنٍ: فإمّا أنْ تكونَ أخي بحقٍ، وإلا سأتخذُكَ عدوّاً صريحا!!.
وحول هذه القصيدة التي نحن بصددها اليوم سنجدُ أنّها ترتكز في سرديّتها حول الأنا والآخر، أي ذات الشاعر وتفاعلها الحيويّ مع ثلاثة أركانٍ محوريّة، هي بالترتيب: 1-المحبوب 2-الحيوان 3-الصديق، فأوّلهم محبوبته فاطمة التي ابتدأها بخطابهِ الشّعري:
أَفاطِمُ قَبلَ بَيْنِكِ مَتِّعِيني
وَمَنْعُكِ ما سَأَلتُكِ أَنْ تَبيني
وثانيهم الناقة التي كانت مصدرَ الثروةِ حينها، وأداةً للرّكوب والتنقّل والسفر، فهي جزءٌ أساسيٌّ من الثقافةِ ومصدر اعتزازٍ بها، ولذا نجدُ علاقتها مع الشاعرِ القديمِ تتكررُ في أغلبِ الشعر الجاهلي، فلمْ يكنْ الحيوان الأليف –الناقة خصوصاً- مجرد أداة للمعيشة (الغذاء واللباس والركوب) فحسبْ، بلْ يتعدّى الأمرُ ليصلَ عند الإنسانِ الجاهليِّ إلى رؤية ٍ عميقةٍ تتجسّدُ بالارتباط الوجودي، وهذا الارتباطُ الانسانيُّ الثقافيُّ نجده يتعمّقُ في دلالته وعلاقته الوجوديّة حتى زمننا الحاضر، وأخيراً علاقته الانسانيّة وصداقته مع عمرو بن هند، وهنا نلحظُ الشاعرَ أثناءَ تقديمه لخطابه الأول في مُقدّمةِ القصيدةِ لحبيبته وهو يتحدّثُ عن مبادئ الأخلاقِ من وجهة نظره، وذات الأمرِ يتكرّرُ أثناء خطابه لصديقه عمرو بن هند، فيَصِلُ في مُنْتهى قصيده إلى الذات تماماً مثلما ابتدأ رائعته، وأعني هنا استعراضه لأخلاقه العربيّة الأصيلة لدرجةٍ متفانيةٍ ومتطرّفةٍ جدّاً، فعندما بدأ شعرُه بخطابِ حبيبته فاطمة بأنّه يكرهُ خلفَ المواعيد التي شبّهها برياحِ الصيفِ التي لا فائدةَ منها، فهي رياحٌ محملةٌ بالغبارِ والسّمومِ ولا يأتي منْ ورائِها الغيث والمطر:
فلا تعِدِي مواعِدَ كاذبات ٍ
تمرُّ بها رياحَ الصّيفِ دُوني
فهكذا كانتْ بدايةُ المثقّب في رائعته عن مدى التزامِه الصّارمِ بالأخلاق الانسانيّة الرفيعة، وهكذا سيختمُ قصيدته كذلك، ولكنْ بخطابه الحادّ أيضاً إلى صديقه عمرو بن هند:
إلى عمروٍ ومن عمروٍ أتتني
أخِي النّجداتِ والحُلُمِ الرّصِينِ
وهنا يُقدِّمُ قانونه الصّارم في الأخلاقِ أمامَ صديقه، ويحثُّه فيه على الالتزامِ بقانونِ الأخوّةِ والصداقة:
فإمّا أنْ تكونَ أخي بحقٍ
فأعْرفُ منْكَ غثّي مِنْ سمِيني
وإلا فاطّرحْني واتّخذْني
عدوّاً أتّقِيكَ وتتّقيني
ليختمَ رائعته بصورةٍ منْ أجْملِ الصُّورِ الفنّية وأرْوعها تتعلّقُ بحديثه الفطريّ عن الأنا والآخر، عن ذاته التي فُطِرتْ على الخير، وعن القدرِ المُخَبَئ له عندما يُضْمِرُ له الآخرون الشر:
وما أدْري إذا يمّمْتُ أمراً
أُريدُ الخيرَ أيُّهما يليني؟
أألخيرُ الذي أنا أبتغيه؟
أمِ الشرُّ الذي هو يبْتغِيني!
** **
@albakry1814