منيرة ناصر آل سليمان
حالما ترجلت من سيارتي، شعرت أن المكان يسقط في عيني وقلبي، ووجودي فيه يتقافز أمامي، كأنه الأمس، بل لكأنني تركته قبيل ساعة فحسب، هو ذاته بكامل جماله، وطهره وبراءة ناسه، وسهولة العيش معهم، لم يتغير، لم تلتهمه سنوات غيبتي القسرية عنه، لم يغيره الزمن، ولم تلتهم تفاصيله الحداثة بكل سيطرتها والحاجة إليها، كدت أراني ذاك الطفل بطاقيته المذهبة وثوبه الناصع البياض تسيل حلواه من فمه ويفتح جيبه لكل من يدس عيديته فيه، أكاد أسمع صراخ الصغار ومفرقعاتهم البدائية الصنع، وأشم روائح الأرز واللحم وهي تملأ الطرقات، حين تتنافس النساء لتقديم صحون متماثلة تماماً.
تلك قريتي لم تتغير بنخيلها الذي بدا أطول وكأنه يعانق السماء، وأشجار السدر التي تمنيت لو أن أحداً يهزها لي لأجمع بكفي الصغيرة ما أستطيعه لأمي، وأشجار الأثل لاتزال يقشعر قلبي منها والصغار يخوفونني من الجن الذي يسكنها! لا وقت للخوف الآن.. إنه يوم عيد!
ألقى مرافقي (البشت المذهب) على كتفي فأحسست بالدفء رغم الشمس الساطعة في هذا الصباح المميز.. كنت أقاوم شعور الحزن وأنا أكاد أشم رائحة كفك المخضب بالحناء في مثل هذا اليوم يا أمي، وصوتك العذب وهو يحكم وضع العقال على رأسي الذي لا أحسنه في العادة وهمساتك المرتعبة (صلح عقالك لا يزعل فهد!).
كنت يا من تظن نفسك فهداً تخجل مني، حين يميل عقالي عن رأسي أو حتى يسقط في يدي! تركلني أمام الجميع وعيناك فيها شرر كبير.. (صلح عقالك يا ولد).
وحين بدوت أتقنه تماماً لم يعد لدى عينيك اللتين تخترقاني ما يمكنك ركلي لأجله! كيف كان يظن أن الرجولة تكتمل حين يتقن الرجل لباسه؟ لكن هذا الوسواس ظل يخنقني فكلما نظرت في المرآة وأنا أصلحه فوق رأسي يعاودني الشعور بالقهر والظلم، وكيف تدخل في حياتي حتى في أبسط الأشياء وانتزع مني أماني ولذة القرب من أمي؟
تنفست بعمق وأنا أحاول التماسك أمام هذا الكم الهائل من الذكريات السوداء التي تساقطت في رأسي، والماضي الذي لا ينفك ينتأ في قلبي من جديد؟ هل كنت مخطئاً لاختياري هذا المكان بالذات وهذا التوقيت؟ انتزعتني أصوات كثيرة مرحبة ورجال عائلتي يحضنون حضوري بفرح بالغ، وقبلات الشباب على رأسي كدت أشرق برائحة البخور الفاخر الذي استقبلوني به، وتكررت كلمات (طال عمرك) كثيراً و( يا شيخ خالد) أكثر وأسقطوا كل ما يمكنهم من عبارات الترحيب التي ضجت في قاموسهم والدعوات بعيد مبارك وتبارك بوجودي...!
سالت مرارة في فمي رغم الشكولاتة التي امتصها لساني وابتسامة من يقدمها بحرارة وترحيب بالغين، تصاعد بخار فنجان القهوة المذهب أمامي وصوت خريره يعلن احترافية من يصبه ويقدمه لي، الاحتفاء بي من الجميع كان مبالغاً فيه على حد تصوري، لم أتوقع كل ذلك حتى من كبار رجال العائلة وهم يقدموني لصدر المجلس ويقسمون الأيمان لأكون فيه ويتراصوا عن يميني وشمالي! أدهشتني محاولاتهم وهم يرفعون صغارهم ليقبلوا رأسي ويسحبون الكبار منهم وصوتهم يخترق أذني
(سلم على عمك).. ولم أنسَ أن أدس عيدياتهم في جيوبهم، كنت ممتناً ومحرجاً في الوقت ذاته، لم يكن عليهم أن يبالغوا في احترامي، ليس لأنني لا أستحق بل لأنني واحد منهم بل أصغر منهم بكثير، وظلت عباراتي تنفخهم أكثر وهم يكسبون رضاي، ولأنني أصررت على أن أتكفل بكل شيء.. يا الله !
هل كل هذا لامتتنانهم لي بأن أعدت احتفاليتهم بالعيد التي توقفت سنوات طويلة في نفس المكان؟
(قصر أفراح القرية الوحيد)
كنت مدهوشاً بقراري الذي عشت لحظاته كثيراً، واختزنت تلك اللحظات في مخيلتي بشغف بالغ، منذ قررت التوقف عن انكساري أمامه، وهربت بكرامتي طيلة سنوات قطيعتي التي أمرني بها بعيد وفاة أمي، كان يظن أنني سأطالبه ببقية إرثي وإرث أمي، وأحب أن يريح نفسه بطردي، لا أنكر أن عيني كانت تدور في وجوه الحاضرين لأبحث عنه، شعرت بانتشاء غريب حين التقت عيني بعينه؟ كدت أبتسم وأنا أرى شاباً متكوراً بجانبه وعقاله مائل تماماً! أطلت النظر فيه وقد أشاح بصره عني وأكاد أرى صدره يعلو ويهبط وكأني انتزعت اللقمة من فيه؟ كان متفاجئاً والجميع يتناسى حضوره الذي كان يجيء مقدراً بتصنع بالغ ليتقوا شر لسانه، ومزاحه الذي يحدث الكثير من المشاكل، بدت نرجسيته بلا مبرر وهو الذي لم يكمل تعليمه الثانوي ولا يملك سوى مزرعة والدي التي أشاركه إرثها وأمي غير أنه كان يعيش على حضور والدي الذي اكتسب احترام الجميع وكرمه الذي شمل معظم بيوت القرية، وحين رحل لم يخلف سوى رماد تطاير قبل أن تكمل والدتي عدتها.
عدت من الجامعة وأنا في سنتي الثالثة كنت مجهداً، بعد أن تعطلت سيارتي الصغيرة في طريق مترب يقطع صحراء طويلة بين قريتي ومدينة الرياض، أصلحتها بالكاد قبيل المغرب، ومنذ دخلت جاءني صوته عالياً مزمجراً فوق رأس أمي التي كانت تكمل سحب آخر حبات أساورها الذهبية من معصمها وتلقي بها بين يديه، قبلت يدها ولاتزال جروح صغيرة يسيل منها الدم بين أصابعها، لم يدعني أهنأ بلقاء أمي حتى زمجر في أذني بقراره الذي رأيته يعصر وجه أمي ويحيل لونه لصفرة المرض والقهر.
لا أدري لم كانت أمي تخشى غضبه وصراخه وكأنه لم يتقلب في بطنها ويذيقها أوجاع خروجه للدنيا؟!
لقد تكاثرت عليه الديون ويجب أن يبيع المزرعة والبيت حتى لا يسجن.. كان كسولاً بما يكفي لتفقد نباتاتها الاهتمام بعيد رحيل والدي.. كنت مستنكراً وقبل أن أقول رأيي قرأت في عيني أمي استعطافاً لا حدود له لأقبل كي لا يضربني، لم تصدق بعد أنني أصبحت رجلاً بما يكفي لأدافع عني نفسي على الأقل! قالت هامسة في أذني (على الأقل تكون جنب الجامعة) ولم تشعر أنه اقتلعها من جذورها وأسكنها بيتاً حسبته قفصاً خنقها! ورحلت سريعاً عن دنياها الجديدة التي لم تألفها ولم تحبها، كما بقيت في سكن الطلاب حيث لا يمكنني أن أقترف القرب منه، خاصة أنني استطعت مواجهته وأخذ جزء من ميراثي والتهم الجزء الأكبر وميراث أمي، كان المبلغ لا بأس به وقتها وسألت ابن عمتي الذي كان عالماً بسوق الرياض وأراضيها فأشار علي بأن اشتري أراضي في شمالها وأنساها بضعة سنوات، وقد أصبح تقديره عالياً، حيث ألقى الملايين في حسابي وهو يفرقع أصابعه بفرح بالغ .. لأصبح مالكاً لشركات وعقارات تتابعت وازدحمت في جيبي! في حين لا تزال البقالة التي اشتراها في الحي قرب منزله على حالها منذ سنوات بعلب التونة والصلصة وجبن الكرافت المرصوفة وحتى شامبو النساء الأحمر!
لم أكن شامتاً به حين مررت بالبقالة يوماً، ولا حتى أستلذ بوجوده على هامش الحفل، رغم أني لو شعرت بذلك لكنت محقاً فبرغم ظلمه وقساوته تمنيت أن أعيش لذة الأخوة والقدوة الصالحة لأخ يحب ويشفق وينصح ويحمي شقيقه الأصغر، تمنيت أن أكون عماً صالحاً لابنه الذي يبدو أنه يكرر معه الوجع الذي أسقاه لي، ويكون هو لصغاري عماً محباً ومشفقاً، تنهدت دون أن يشعر بي الجميع وأنا أكرر جملة سمعتها يوماً (ليت الأخ يشترى!).