د.عوض بن إبراهيم ابن عقل العنزي
تمثّل الأطاريح الجامعية أحد أهم ملامح الوعي العلمي في الجامعات، فهي المكان الذي يُختبر فيه نضج المناهج، ودقّة الإشراف، وقدرة الباحث الناشئ في الدراسات العليا اختبارًا تكون بدايته تحويل المعرفة إلى فكرة، وتطويع الفكر لحدود المنهج، وإبراز الجهود في مشروع بحثي مكتمل.
ومن طبيعة البحث العلمي أنّه يضمُّ ثلاثة أسس هي: (طلب الشيء)، (إثارته)، (فحصه)، فالطلب لا يكون إلا لمجهول يثير في الباحث نهم الجمع والاستقصاء لكل ما له علاقةٌ بفكرته، مع فحص تلك المعلومات فحصًا يثمرُ علائق علمية لبيانات جمعت أشتاتًا حتى إذا انتهى الباحث من الفحص وجد خريطةً ذهنيّة لمفاصل بحثه.
ومن أهم سمات الأبحاث العلميّة موضوعيّتها التي تقوم على ركيزتين: الأولى حصر الدراسة في موضوع البحث، والأخرى النزاهة العلميّة والتباعد عن التحيُّز، وهو المسمّى بالتجرُّد.
وكذلك من سمات الأبحاث العلمية التزامها بالمنهجية العلمية في الجمع والعرض، وفي التنضيد والتنظيم، وربما يصلح أن نستعير معنى النّظم في البلاغة هنا فنقول: البحث العلمي هو توخِّي معاني الموضوعية والمنهجية فيما بين المعلومات.
ولعل هذا التعبير المبنيَّ على فكرة النظم يشعر بأنَّ (العنونة) ثمرةُ توخي الموضوعية والمنهجية، وأنَّ جدوى كلِّ بحثٍ هي مقدار توخيه معاني الموضوعيّة والمنهجيّة في عمله العلمي، وربما يمكن الذهاب إلى أنَّ الحرص الشديد على الموضوعيّة والمنهجيَّة يمثِّل ثقافًا يشحذ الذهن ليتهيَّأ للعمل العلمي بمنطقٍ يحسنُ جسّ المعاني والأفكار.
ويظهرُ أنّ تجربة الاطلاع على الأطاريح الجامعية تميطُ اللثام عن عقبات متكررة تُضعف جودتها، وتؤثر في مسار البحث العلمي كلّه، ومن أجل ذلك تأتي هذه القراءة لتناقش ثلاثة معالم في مسار إعداد الخطة: منطق العنونة، ومنهج الدراسة، وإدارة المصادر والمراجع؛ لأنها تراها مواضع كاشفة عن الخلل البنائي الذي يعوق الأطروحة من لحظتها الأولى، ويجعل جودة البحث أسيرة اختيار المفاهيم تشبُّعًا، لا نتيجة جوهر التحليل.
أولًا. العنوان بوصفه بوابة المنهج.
افتتح د. عبد الوهاب أبو سليمان -رحمه الله- حديثه عن (عنوان البحث) بقوله: «العنوان هو مطلع البحث»، ويتراءى أنَّ لذة الشعرِ تأسرُ العربيَّ ولو رام أسباب اللغة الأكاديمية، ولا ضير؛ فإنما تنطق العرب بأرواحها وجواهرها اللطيفة، ولهذا كان نقاد الشعرِ يعيبون بعض المتكلِّمين بغلظ الطبع، أما والأمرُ أنَّ (العنوان هو مطلع البحث) فإنَّ العنوان هو موضع أناقة الباحث، والعنوان هو معيارُ اللطف في روح الباحث، وهو ميدانُ براعة الاستهلال، وهو بوابة المنهج.
ويمثّل العنوان اللحظة الأولى التي يتجلّى فيها وعي الباحث بمشكلته وبالنسق الذي سيحكم مسار دراسته، ولذلك يصبح العنوان خلاصة اختيارٍ دلاليّ يحدّد الأفق الذي ستسير فيه الأطروحة، ويجمع بين (روح المطلع)، و(نظام الأناقة)، و(براعة الإهلال بالموضوعية والمنهجيَّة).
ويمكن لكل مكابدٍ في ميادين البحث العلمي أن يتحصَّل على خبرة يومية في قراءة خطط الأطاريح الجامعيّة في الدراسات العليا، وتقوده هذه الخبرة إلى كشف خطر العنوان على البحث والباحث؛ لأنَّ ضعف الاهتمام به يجعله أحد أكثر المواضع عُرضةً للاضطراب، ولستُ أقصدُ بذلك نقض الطبيعة الشمولية المفضَّلةِ في العنونة؛ لأنّ هذه الطبيعة الشمولية جزء من المرونة اللازمة لبناء الفصول والمباحث، بل أقصدُ من ذلك أنَّ كثيرًا من العناوين تتحرك في أفق تأويلي واسع، وتسير الخطة (الفصول والمباحث) في إطار وصفي تحليلي محدود، فتظهر الفجوة بين المنهج المعلن والمنهج الممكن.
ويزداد هذا الاضطراب حين تتراكم في العنوان مفاهيم غير منسجمة، أو حين يتردّد الباحث بين أكثر من مجال دون ترجيحٍ لمنطقة تحليلية واضحة، أو يستعملُ ألفاظًا تصدُّرُ بها بعض عناوين الكتب ظنًّا منه أنّها مطابقةٌ لموضوعه، أو محسِّنةٌ لهيئة عنوانه، وعندئذ ينقلبُ العنوان من مفتاح للبحث إلى عبءٍ يشتّت مساره.
ومن ثمّ فإنّ أول شروط العنوان الجيد هو الاقتصاد الدلالي الذي يضبط المفهوم المركزي دون تشعّب، ويجعل العنوان مرآة للمنهج لا غشاوةً تحجبه، ويُحكم رسم المشكلة البحثية بحيث يكون العنوان بدايةً للبحث لا عائقًا أمامه، ومستجيبًا لتوقعات قارئه.
(ثانيًا) المنهج بوصفه ملتقًى ومرتقًى.
يمثّل المنهج في الأطروحة العلمية مركز الجاذبية الذي تتجه إليه الأسئلة والمباحث، فهو العقل الباطن للدراسة، والميزان الذي يضبط علاقة الباحث بموضوعه. ويُنظَر إلى المنهج من خلال مفاهيم متعددة استعرضها (عقيل حسين عقيل)، منها أنّه بناء فكري، وتتبّع واع، ومُوضّح للرؤية، ومبيّن للمسارات الفكرية والاتجاهات المحمولة فيها، وهو الكيفية التي يُصاغ بها الموضوع، وناظم المعلومة في الفكرة وناظم الفكرة بالمعلومة، وآلة توليد الأفكار والحجج، ومفكّك المعلومات ومركّبها.
ويمكن رصد إشكال تكشفه المتابعة الدقيقة، وهو أنّ المنهج ـ على أهميته ـ يُذكر كثيرًا بوصفه إعلانًا نظريًا لا صناعة معرفية، فيتحول إلى عبارة إنشائية تتصدّر الخطة دون أن تشارك في بنائها. وتبدأ المشكلة حين يجمع بعض الباحثين بين مناهج لا تلتقي في مستوى واحد؛ فترى الخطة تعلن منهجًا وصفيًا تحليليًا، ثم تقفز إلى مقاربات تأويلية أو سيميائية من غير تحديد مدرسة أو أداة، فينشأ اضطراب خفيّ يكشف غياب الوعي بطبيعة كل منهج وحدود عمله. ويتعمّق الخلل عندما يتحوّل المنهج إلى خطاب عام يشرح مفاهيم كبرى دون أن يقدّم أداة تحليلية واحدة يمكن أن تُرى آثارها في الفصول، فيظلّ المنهج معلّقًا بين النظرية والتطبيق، لا هو انحاز للنظرية ولا تحقّق في الممارسة.
ويظهر أثر هذا الاضطراب أيضًا في انفصال الأسئلة البحثية عن المباحث؛ لأنّ المنهج الحقيقي هو الذي يربط السؤال بالبناء، ويوجه حركة الفصول وفق منطق واحد، فإذا غاب هذا الربط انفلتت المباحث من سياقها، وفقد البحث منطقه البنيوي الداخلي. ولهذا يحسن بكل مشتغل في البحث العلمي أن يلزم نفسه بأنّ كل منهج لا يتحقق في التطبيق لا يستحق مكانه في الخطة. والمنهج الذي يريد الباحث الإفادة منه يحتاج إلى تحقيق ثلاثة شروط:
(1) مدرسة علمية محددة تكشف منطلقه.
(2) أداة تحليلية واضحة تجلّي مساره.
(3) ترجمة صريحة لبنائه في الفصول والمباحث؛ ليصبح المنهج قوة موجهة لا زينة شكلية.
(ثالثًا) بناء الفصول والمباحث: من الشكل طريقًا إلى المنطق العلمي رفيقًا.
يُعدّ بناء الفصول والمباحث الجزء الذي ينشغل به الباحث انشغالًا كبيرًا؛ لأنّ خطة الأطروحة تمثِّلُ الطريق الذي سيسير عليه حتى الانتهاء من الكتابة، وهي صورةٌ مصغرةٌ عن المشروع الذي يطلب الباحث إنجازه، ويكشف بناء الخطة حقيقة التواؤم والاتساق مع العناصر السابقة -العنوان والمنهج-وينبئ عن حقيقة تحوّلها إلى فعلٍ علمي أو بقائها على هيئة عبارات مبتسرة.
وللخطط في مسالك الدراسات العليا شؤون وشجون، فمن الخطط ما ينبئ عن باحثٍ يستمتع باقتناص الأطر الجاهزة ليكتفي بها، ومن الباحثين من يسعى إلى أنْ ينشأ كلُّ مبحثٍ من المادة العلمية المجموعة، ولذلك تختلف الخطط باختلاف قدرات الباحثين ونياتهم.
وبعضُ الخطط عبارةٌ عن أنموذج فارغ معدٍّ للملأ سلفًا، وهذا النوع من الخطط ينجزُ المشروع ليكون عمرًا مضى بغير اشتغال لا إنجازًا يستحقُّ الاحتفال، ولذلك تخلو هذه الخطط من رؤيةٍ نسقيةٍ واضحة تجعل الخطة بناءً واحدًا لا قطعًا متناثرة.
ويتبدّى الخلل الأول في تلاشي المشكلة البحثية خلف تعميمات إنشائية؛ إذ تُقدَّم مقدمات واسعة تكرر معلومات معروفة، فتغيب المشكلة وينطفئ التوتّر العلمي الذي يجب أن يصاحبها.
ويتعمّق الاضطراب حين تنفصل الأسئلة البحثية عن المباحث، فيسير كل منهما في اتجاه مغاير، ويزداد الخلل وضوحًا عندما تتكاثر الفصول النظرية التي تشرح مفاهيم عامة لا تتحوّل إلى أدوات تحليلية، فيصبح الإطار النظري كتلة معرفية معزولة لا أثر لها في القراءة التطبيقية.
وعند هذا الحدّ تظهر الحاجة إلى إعادة بناء الخطة من داخلها، وذلك بأنْ تنهض على منطق واحد يبدأ بمشكلة دقيقة، ثم بمنهج محدد، ثم بآليات تحليلية محكمة، ثم بمباحث تتسلسل وفق منطق داخلي لا وفق تقاليد الشكل الجامد. والخطة الجيدة هي التي تُبنى على ما اجتمع للباحث من مادة أوليّة ومناقشة منهجية، فيتناغم فيها السؤال مع الفصل، ويقود المنهج حركة المباحث، وتتحوّل المفاهيم النظرية إلى أدوات تحليلية فاعلة لا إلى زينة معرفية.
(رابعًا) قوائم المصادر والمراجع: كشّاف النضج المنهجي.
تُعَدُّ قائمة المراجع أحد الأعمدة الرئيسة التي يُبنى عليها أيّ عمل أكاديمي؛ فهي المرآة التي تعكس وعي الباحث بموضوعه، وتكشف عن مدى اطلاعه على أصول العلم ومصادره الأساسية، وعن قدرته على التمييز بين الأصيل والثانوي من مواد المعرفة، وهي من أهمّ مقاييس صحة البحث وجودته.
ويظهر للمتأمّل في خطط ورسائل الدراسات العليا أن قائمة المصادر والمراجع كاشفة عن مستوى النضج المنهجي لدى الباحث؛ فإذا نقص هذا النضج عن الحدّ المأمول تكشّف الاضطراب في صور متعددة: غياب معيار ثابت يميز المصدر من المرجع، وضمّ كتبا بعيدة عن الظاهرة المدروسة بما يدل على غياب الانتقاء الوظيفي للمادة العلمية، وهيمنة المراجع النظرية العامة على حساب المراجع التطبيقية المتخصصة، وضعف تمثيل الدراسات الحديثة التي تمنح البحث حداثته وراهنية موضوعه، وتعدد طرائق التوثيق وغياب البيانات الجوهرية، حتى تبدو القائمة خليطًا لا نظامًا. كما يكشف ضعف التنوع اللغوي والجغرافي عن انغلاق معرفي يحدّ من قدرة الباحث على الإحاطة بأفق الظاهرة المدروسة.
ومن هنا يصبح بناء قائمة المراجع فعلًا منهجيًا لا تجميعًا عابرًا؛ إذ العبرة من ذكر المصادر والمراجع ـ كما يقول الدكتور (موفّق بن عبدالله بن عبدالقادر) ـ ليست في تعدادها، بل في كيفية استخدامها، وأسلوب الاقتباس منها، وتوظيف المعلومات المستفادة، فكثيرًا ما يشير الباحث إلى مصادره، غير أنّ المتتبّع لعمله يلحظ أنه لم يُحسن الإفادة العلمية منها، بل قد يُسيء إلى تلك المصادر ومؤلفيها إذا لم يُوفّق في تجميع المادة وصياغتها لخدمة بحثه.
ويلزم لتحصيل الفائدة الحقيقية من المصادر والمراجع أن يرتبط كل كتابٍ بفصل محدد، وأن يدلّ على حداثة صادقة، ودقة في التوثيق، وتخصصية تخدم موضوع الدراسة. ولهذا فإنّ تقويم قائمة المصادر والمراجع لا يقلّ أهمية عن تقويم متن الرسالة؛ لأنّ الرؤية المنهجية السليمة تبدأ من جودة الشاهد العلمي قبل جودة التحليل، ومن إحكام المواد قبل إحكام العبارات.
وبعد هذا يمكن القول: إنّ جودة الأطروحة لا تُبنى على جزء واحد من أجزائها، بل الجودة ثمرةُ نَسَقٍ يتآزر فيه العنوان مع المنهج، ويتضافر البناء الهيكلي مع المصادر والمراجع، ويبرز حينئذٍ من مجموع ذلك كله روحٌ علمية قادرة على إنتاج مشروع علميّ متين.
ويظهر للمتأمّل في هذه الأجزاء المتآزرة أنَّ العنوان بوابةُ الرؤية، والمنهج عقلُها الباطن، والبناء الهيكلي للفصول والمباحث جسدُها الحيوي، والمصادر والمراجع ذاكرتُها العميقة، ولا يكتمل العمل ما لم تتشابك أطراف هذا الرباعيُّ في وحدة عضويةٍ واحدة.
وكل خلل يظهر في الخطط هو أثرُ وعي الباحث بمنزلة الفكرة، وطريقته في قراءة المعرفة وتنظيمها، وقدرته على تحويل المفاهيم إلى أدوات، وتحويل الأدوات إلى تحليل، والانتهاء بالتحليل إلى كشفٍ علميّ يسهم في بناء المعرفة وإغناء حقولها.
ومن هنا فإن إصلاح الخطط تأسيس لثقافة أكاديمية راسخة تُعلي قيمة الدقة، وتُحسّن من اختيار المناهج، وتمكّن من جعل انتقاء المصادر والمراجع أمرًا وظيفيًا، وتعين على بناء الفصول وفق منطق داخلي متين.
وإنّ ما يُرجى من هذه المقالة أن تقدِّم مسارًا ينبِّه الباحث إلى مواطن القوة في مشروعه، وتعيد له وعيه بالأجزاء التي تغذّي الرسالة العلمية؛ لكي يسير البحث العلمي في طريق مستقيمةٍ تجمعُ بين عمق الفكرة، وجمال الصياغة، وصحة المنهج، وأصالة المادة.
وما دامت الأطروحات الجامعية منفذًا تعبر منه المعرفة الممنهجة إلى مستقبلها، فإنّ العناية بها عنايةٌ بمستقبل البحث العلمي ذاته، وبالأجيال التي ستحمل على عاتقها مواصلة هذا البناء.
** **
- جامعة الحدود الشمالية