أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
من بواقع (ابن فارس) المترتِّبة على جهالاته، التي ناقشناها في المساق السابق، ما أورده في كتابه «الصَّاحبي»، في «باب القول في اللُّغة التي بها نزل القرآن، وأنه ليس في كتاب الله جلَّ ثناؤه شيءٌ بغير لُغة العَرَب». حيث أبدأَ وأعاد فيه بما ينقض قوله السالف بتوقيفيَّة اللُّغة. إذ لو كانت اللُّغة توقيفيَّة، إذن كيف يطرأ على بال أحد التساؤل عمَّا إذا كان في لغة قومٍ كلامٌ بغير لغتهم؟! ما دامت اللُّغة جامدةً منذ الأزل، فلا زيادة فيها لمستزيد، لا شيء يدخل فيها من غيرها ولا شيء يخرج! وهو اضطرابٌ لا يقلُّ مناقضة للتوقيفيَّة من اعتراف ابن فارس بأنَّ لُغته ولُغة معاصريه قد تغيَّرت عن ذي قبل، ولم تعُد محلَّ احتجاج توقيفي! والإشكال، هنا كالإشكال هناك، من تأويل النصِّ القرآني، وتقويله ما لم يقل. فحين ترد الآية «بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ»، أو «إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا»، فإنَّ هؤلاء الأئمة من علمائنا النحارير يفهمون أنَّ في النص دليلًا قطعيًّا على أنه ما دار في حنك عَرَبي لفظٌ قبل الإسلام إلَّا وهو من لُغة العَرَب «التوقيفيَّة». على الرغم من أن توقيفيَّتها إنَّما استمرَّت لديهم نحو مئة سنة فقط، حتى نزل بها «القرآن»، ثم رُفِع التوقيف نهائيًّا، وإلى غير رجعة؛ فأصبحت كلُغات البَشَر: اصطلاحيَّةً خاضعةً للمُواضعة! والحقُّ أنَّ «القرآن» بلسانٍ عَرَبي مبين، لكن النصَّ لم يقل بلسان عدنان ولا قحطان، ولا أنَّه لم يَدخُل فيه معرَّب قط. ولو قال ذلك لكان فيه دليل قطعيٌّ الدلالة على ما أجهد فيه ابن فارس وأضرابه أنفسهم للاحتجاج عليه، من أنَّه ليس في لُغة «القرآن» كلمة من غير لُغة البيئة العَرَبيَّة. ذلك أنَّ العَرَب لم يكونوا يقطنون في كوكبٍ مستقلٍّ غير الأرض؛ فكان طبيعيًّا لذلك أن يقتبسوا مفردات من لغاتٍ أخرى، كما يقتبس غيرهم من لغتهم. وهو ما لم يعُد اليوم مجال جدال، لكنَّه يكشف لك مدَى بدائيَّة تلك العقول لأئمة علمائنا النحارير، حتى إنَّك ربما رأيت أحدهم ينقض ما سطره في سطرٍ من كتابه في السطر الذي يليه؛ من حيث إنَّ الاتِّباعيَّة عمَى بصيرةٍ وبصر، لا شفاء منه غالبًا.
ولقد خاض صاحبنا في هذا الباب مخاضًا لا قيمة له، جارَى في بعضه مَن أوشك أن يكفِّر من قال بأنَّ في لُغة «القرآن» مفردات غير عَرَبيَّة؛ لأنَّه لا يرى متَّسعًا لمثل هذا القول- مع أنَّه يرى في تأويلات النصوص إذ وافقت الرأي المتشدِّد كلَّ الاتساع- بل يرى القول به رفضًا لمنطوق الآيات! مورِدًا هنا قولًا لـ(أبي عُبيدة): «إنَّما نزل القرآن بلسانٍ عَرَبيٍّ مبين، فمن زعمَ أنَّ فيه غير العَرَبيَّة، فقد أعظم القول!»(1)
لكن مَن قال لك، يا (أبا عُبيدة): إنَّ مَن قال: إنَّ في «القرآن» من غير العَرَبيَّة، قد عارض القول بأنه نزل بلسانٍ عربيٍّ مبين؟!
هذا لا يتعارض مع ذاك.
وهل الإبانة مقصورة على اللُّغة العَرَبيَّة؟!
وكذا فإنَّ مفهوم «اللِّسان العَرَبي المبين»، لا يعني بالضرورة أنَّه لم يدخل في ذلك اللِّسان من اللُّغات الأخرى شيء. وإلَّا كان عليك، يا (أبا عُبيدة)، أن تأتينا بشواهد من الشِّعر الجاهلي، أو من النثر الجاهلي، على تلك الكلمات، التي قيل إنَّها بغير العَرَبيَّة، مثل (جهنم)، و(الفردوس)، و(إستبرق). على أنَّ مجيء تلك الكلمات في العصر الجاهلي، لو جاءت، ليس في ذاته بدليلٍ قاطعٍ على أنَّها ليست بكلماتٍ معرَّبة، دخلت على اللِّسان العَرَبي من غيره من الألسنة. لأنَّ العَرَب كانوا بَشَرًا، ولم يكونوا آلهة. وبما أنهم بَشَر، فقد كانوا يشتغلون بالتجارة. ومن يشتغل بالتجارة يأخذ عن غيره، كما يفعل سائر البَشَر. ثمَّ أنَّى للعَرَبيِّ أن يعرف اسمَ ما ليس من بيئته، من منتَجٍ صناعي، أو زراعي، أو من حيوان؟ نعم، إذا كان المُسمَّى من منتجات البيئة أو موجوداتها، فإنَّ اسمه، تبعًا لذلك، سيكون بلُغة أبناء تلك البيئة. أمَّا إذا جاء من خارجها، فسيجيء باسمه الذي سمَّاه به أهلُه. ومن الخبَل الزعم أنَّ أبناء جزيرةٍ معيَّنة يُسمُّون بلُغتهم الأشياء التي لا يعرفونها، وليست من بيئتهم في شيء، أو ليست من ثقافتهم في شيء، أو ليست من عصرهم في شيء! فـ(الإستبرق)، مثلًا، وهو الغليظ من الدِّيباج، ليس من صناعة العَرَب، ولا من منتجات العَرَب، بل هو صناعة فارسيَّة؛ فجاء باسمه الفارسي (إسْتَبْرَه). فإذا عرَّبه العَرَبيُّ واستعمله، أفيقال: إنَّ هذا العَرَبي لم يعُد ينطق بلسانٍ عربيٍّ مبين؟!
لقد ظهر الإسلام وفي (مَكَّة) وحدها أناسٌ من مختلف شعوب العالم تقريبًا. الفارسي، والحبشي، والرومي، وغيرهم. وهذا في ذاته آيةٌ على المشترَك الحضاريِّ الذي كان بين العَرَب وغير العَرَب. فضلًا عن كون أهل مَكَّة أنفسهم أهل تجارة. وقد كانوا يتاجرون في كلِّ شيء، بما في ذلك تجارة البَشَر! فكان طبيعيًّا، والحالات كذلك، أن توجد الكلمات المستوردة، ولا غضاضة في هذا، ولا غرابة، ولا مطعَن في اللِّسان العَرَبيِّ المبين. ذاك علاوة على تلك المفردات التي عُرِفت من قَبل في كتُب أهل الكِتاب، من أصحاب الدِّيانات السالفة. أفكان العَرَب قبل الإسلام يعرفون ذلك كلَّه أيضًا؟ ويتداولونه في لُغتهم اليوميَّة أو غير لُغتهم اليوميَّة؟! إنَّ من يسوِّغ له عقله القول: إنَّ العَرَب قبل الإسلام كانوا يعرفون علوم النحو والصرف والعَروض -كما نجد لدى (ابن فارس)- لا يُستبعَد أن يقول بما هو أدنى من ذلك! أمَّا غيره من أسوياء العقول، فيُدرِك قطعًا أنَّ تلك الكلمات ما دارت في أذهان العَرَب قبل الإسلام قط ولا على ألسنتهم. لهذا كان طبيعيًّا أن تكون كلمات مثل (القسطاس)، و(الفردوس)، و(المشكاة) ممَّا لا قِبَل للعَرَب قبل الإسلام بمعرفته، ولا باستعماله؛ فهو من خارج معجمهم التداولي، إلَّا في ما نَدَرَ؛ إذ لا قسطاس، ولا فردوس، ولا مشكاة، بل شياه، وإبل، ورمال، ونخيل، ونحوها من بنات بيئتهم النوعيَّة الخاصَّة. بل أكثر من ذلك، لقد غيَّر الإسلام مفاهيم بعض الكلمات العَرَبيَّة نفسها عمَّا كانت عليه قبله، مثل (صلاة) و(زكاة)، و(صوم)، و(مؤمن)، و(مسلم)، و(كافر)، و(منافق)، و(فاسق)، وغيرها من المفردات -التي ذكرها ابن فارس(2) نفسه، في «باب الأسباب الإسلاميَّة»- لتُكسِبها الثقافة الإسلاميَّة من المعاني ما لم يكن لها لدَى العَرَب من قبل، إنْ بصورةٍ كُليَّة أو جُزئيَّة.
وإذا كان من المجازفة العلميَّة الذهاب إلى أنَّ جميع الكلمات الموصوفة بأنها معرَّبة لم يعرفها العَرَب، وإنَّما استوردوها، فإن من المجازفة العلميَّة كذلك القول بأن تلك الكلمات قد عرفها العَرَب قطعًا، ولم يستوردوها من لُغات غيرهم. من حيث إنَّ التجربة الإنسانيَّة لها في الأصل تاريخ مشترك بين الشُّعوب المختلفة؛ فكلهم، قبل كلِّ شيءٍ وبعده، لآدم. بَيْدَ أنَّ القرائن الحضاريَّة قد تحمل على ترجيح انتماء هذه المفردة أو تلك إلى لُغةٍ من اللُّغات أكثر من غيرها.
ولقد أثبتت التنقيبات الأثريَّة في الجزيرة العَرَبيَّة على وجود كتابات بلغاتٍ شَتَّى، وبخطوطٍ شتَّى، من عَرَبيَّة وغير عَرَبيَّة. وهذا يدلُّ، لا على علاقات لغوية فحسب، بل أيضًا على وجود طوائف من شعوب أخرى كانت تعيش في الجزيرة العَرَبيَّة، تتحدَّث لغاتها وتكتب بها. على حين ظلَّ المخيال العتيق يتصوَّر أنَّ العَرَب كانوا أُمَّةً أُميَّةً منغلقة، وأنَّ لُغتهم كانت لُغةً شفويَّةً لا أكثر. أمَّا الآثار المكتشفة حديثًا، فترسم لنا خريطةً مدهشةً لتلاقح اللُّغات والثقافات في الجزيرة قبل الإسلام. وحسبك هاهنا بمكتشفات (قرية الفاو) شاهدًا نموذجيًّا على ذلك التنوُّع الثقافي. هذا على الرغم من تركيز التنقيبات الأثريَّة حتى الآن- ولأسبابٍ غير عِلميَّة- على شَمال السُّعوديَّة وشرقها، وإهمال غربها وجنوبها ووسطها، إهمالًا لافتًا وغير مفهوم، باستثناء (قرية الفاو)، التي تُعَد وسطًا بين الجنوب والوسط. وهي على قيمتها لا تعدو نطاقًا ضيِّقًا جِدًّا -(قرية)- ولا تمثِّل سِوَى شاهدٍ على? ما تخبِّئه هذه البلاد الشاعة من القُرى والمدن والآثار التي ما زالت مطمورة، إنْ بالطبيعة أو بفعل الإنسان.
المفارقة أنَّ (أبا عُبيدة)، الذي استشهد به (ابن فارس) قبل قليل على إنكار أن يكون في لُغة «القرآن» مفردات غير عَرَبيَّة الأصول، ما لبث أنْ رجع عن قوله ذاك. فقال: «والصواب من ذلك عندي، والله أعلم، مذهبٌ فيه تصديق القولين جميعًا، وذلك أنَّ هذه الحروف أصولها أعجميَّة، كما قال الفقهاء، إلَّا أنها سقطت إلى العَرَب، فأعربتها بألسنتها، وحوَّلتها عن ألفاظ العَجَم إلى ألفاظها، فصارت عَرَبيَّة. ثمَّ نزل «القرآن»، وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العَرَب. فمَن قال إنها عَرَبيَّة فهو صادق، ومن قال عجميَّة فهو صادق.»(3)
وهذا عين العقل.
وهكذا بدا الرجُل كمن كان في سَكرةٍ فأفاق! ثمَّ أردفَ، وقد أدرك ورطته المنطقيَّة: «وإنَّما فسَّرنا ه?ذا، لئلَّا يُقدِم أحدٌ على الفقهاء فينسبهم إلى الجهل، ويتوهَّم عليهم أنهم أقدموا على كتاب الله جَلَّ ثناؤه بغير ما أراده الله جلَّ وعزَّ، وهم كانوا أعلم بالتأويل، وأشدَّ تعظيمًا للقرآن.»(4)
إذن، كيف قال (أبو عبيدة): إنَّ من قال إنَّ في «القرآن» ما ليس من لُغة العَرَب، فقد أعظم وأكبر؟!
سنرى إجابة ه?ذا في المقال المقبل، حيث يتحوَّل بنا (ابن فارس)، من الحديث عن «القرآن» إلى الحديث عن العنصر العَرَبي: وكأنَّ العَرَب لا يُعجزهم الإتيان بشيءٍ مطلقًا، وإنْ كان ممَّا يجهلون!
**__**__**__**__**__**
(1) يُنظَر: ابن فارس، (د.ت)، الصاحبي، تحقيق: السيد أحمد صقر، (القاهرة: عيسى البابي الحلبي وشركاه)، 43. ويُقارن: أبو عبيدة، (1988)، مجاز القرآن، باعتناء: محمَّد فؤاد سزكين، (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 1: 17 .
(2) يُنظَر: الصاحبي، 78- 86 .
(3) (4) م.ن، 45- 46 .
** **
(العضو السابق بمجلس الشورى - الأستاذ بجامعة الملِك سعود)