أ.د. محمد بن عبدالعزيز العميريني
لم يعد العقل الأكاديمي اليوم كيانًا مستقلًا يُنتج المعرفة داخل فضاء حرٍّ لا يرتبط بقيود، بل أصبح جزءاً من بنية مؤسسية واسعة تتشابك فيها أولويات الجامعة، ومتطلبات الاعتماد، وكذا ضغوط التصنيفات العالمية، ناهيك عن تحديات الجودة الشاملة، فتحوّل الأستاذ الجامعي من (منتجٍ مفكّر) إلى (فاعلٍ مُقاس)، تُقاس إنجازاته بضوابط معيارية، وأدوات ترميز، ومؤشرات أداء، ونظم رقابية تتجاوز أحيانًا جوهر العملية العلمية نفسها، وهذا التحول العميق يطرح سؤالاً عميقاً، وليس في الأفق إجابة مقنعة: هل ما زال العقل الأكاديمي قادراً على ممارسة استقلاله المعرفي داخل منظومة تحكمها لغة الأرقام أكثر من لغة الإبداع؟.
في الآونة الأخيرة أصبحت الجامعات مؤسسات ذات بنية تشغيلية معقّدة، حيث لم تعد تكتفي بأثرها التقليدي في التدريس والبحث، بل باتت مطالبة بإثبات أثرها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، ومساءلة مخرجاتها، ومقارنتها بالنواتج المعرفية المختلفة، وقياس جودة أدائها من خلال تقارير ومنصات عالمية، وبمعنى آخر تحولت الجامعات إلى (مؤسسات حسابية) تُقاس فيها القيمة الأكاديمية بالأرقام على حساب التطوير المعرفي، والإنتاج الثقافي الذي يمتد أثره، وتدوم له غايته.
يبدو لي أن هذا التحول البنيوي فرض على العقل الأكاديمي نوعًا من التكيّف، حيث تُختزل القيمة البحثية في عدد الاستشهادات أو مستوى المجلة، كما تقاس الإنتاجية بالكمية لا النوعية، والتركيز على النماذج (الجاهزة) دون ترك حرية للإبداع والابتكار المعرفي، وفي ظل هذه الازدواجية أصبح العقل (الجامعي) يبحث عن الإبداع حين تضاءلت الفرص، وباتت المؤسسات العلمية تُعنى بمنظومة مركزية لا علاقة لها بالمعرفة أو التخصص الأكاديمي.
وعلى الرغم من أثر التصنيفات العالمية في تحسين مؤشرات الأداء، فإنها أدخلت العقل الأكاديمي (الأستاذ الجامعي) في دائرة بيروقراطية (التقيد بالمعايير)، ربما لا علاقة لها بجوهر المعرفة أو التخصص المعرفي (التصنيف الدقيق)، وتلك الدائرة تضم تعقيدات عدة لا يكاد العقل الأكاديمي ينجو من إحداها إلا وقع في أصعب منها (حلاً وتوقعاً)، وتبدأ (دائرة الضغط) بمسألة النشر في مجلات علمية محددة تتمتع بمعامل تأثير عالٍ، و-هنا- يتحول البحث العلمي من سؤال معرفي إلى هدف تقني مضطرب الغاية، ثم تشترط الجامعات أن يكون النشر (دولياً) لا (وطنياً) زعماً أن المجلات العالمية أكثر دقة وإحكاماً، وفي هذا -كما لا يخفى- تهميش للهوية العلمية المحلية، ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل ننتقل إلى قضية الاستشهادات البحثية، فيلجأ الباحث إلى الموضوعات المكررة والرائجة (الفارغة معرفياً) قصيرة العمر والمدى؛ لأن دعمها أقوى وحضورها أعمق، وبذلك يهمل الموضوعات والمشكلات الطارئة أو (الملحّة).
واللافت للنظر أن السعي الحثيث لتطبيق أنظمة الجودة بهدف الضبط والتحسين أوقع في مشكلات معرفية وسلوكية أبرز مظاهرها: غض الطرف عن نوعية التدريس (انفصال الجودة عن جوهرها)، وانخفاض مستوى جودة التفاعل مع الطلاب، وتآكل الزمن المخصص للإنتاج البحثي وخدمة أهداف الجامعة والمجتمع، وتحويل عضو هيئة التدريس من منتج معرفة، إلى باحث عن سلاسل التوثيق، ونماذج الأداء، ناهيك عن أن تلك العملية غيّبت مؤشر الأثر الفكري الحقيقي.
لست ضد منظومات الجودة وعمليات التحسين في المؤسسات العلمية والجامعات، لكن ذلك ينبغي أن يكون ضمن اختصاص فئة معينة، أو إدارة محددة، كما يحسن التركيز على أن تكون أنظمة الجودة الجامعية أنظمة دعمٍ لا تقييم، وأن تتم بعيداً عن الأستاذ الجامعي (الأكاديمي) الذي بات (يُكابد) من أجل تحقيق التوازن بين استقلاله العلمي، ووظيفته المؤسسية، و-هنا- لا بد من إعادة صياغة العلاقة بين العقل الأكاديمي والجامعة، بحيث يصبح عقلاً ناقداً مستمراً في إنتاج المعرفة، وعاملاً رئيساً في تشكيل الوعي، وصنع المعنى، وتنمية التفكير النقدي، وتعزيز ثقافة الانفتاح، مسهماً في تحقيق متطلبات الجامعة ورسالتها المؤسسية بصفته شريكاً مساعداً، وليس مباشراً رئيساً فيها.
وأخيراً. هل يمكن للجامعات أن تمنح أساتذتها استقلالاً معرفياً دون الإخلال بمتطلبات الكفاءة المؤسسية؟
** **
الأستاذ في جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي