طارق محمود نواب
منذ أن وضعت قدم الإنسان الأولى على هذه الأرض، ونحن لا نعرف كم ألف سنة انقضت، ولا كم جيلًا حاول أن يكتب أثره قبل أن يغيب صوته. ورغم هذا الامتداد المذهل لعمر الكوكب، لم يتوقف الإنسان يومًا عن مطاردة كلمة جديدة، أو معنى يعلو اللحظة، أو سؤالٍ يربك سكينة العقل.
ولو كانت الأفكار تموت كما يموت الجسد، لانطفأت أنوار دور النشر منذ قرون بعيدة، ولتحولت المكتبات إلى مقابر منسية. لكنّ المفارقة التي تبقى عصيّة على التفسير أن الرفوف لا تزال تمتلئ، والكتب لا تزال تُولد، وكأن الإنسان يصرّ على أن يخبر العالم أن الفكرة لا تشيخ… وأن الزمن لا ينتصر على الوعي.
وحين نتأمل جيدًا، ندرك أننا نعيد الكتابة عن الموضوعات نفسها التي دوّنها الأوّلون بالحب، والخوف، والموت، والحكمة. غير أننا لا نعيدها بملامحها القديمة، بل نعيدها لأن تجاربنا جديدة، وجرحنا مختلف، وفرحنا لا يشبه فرحهم. فحبّ اليوم ليس حبّ المتنبي، ولا خوف اللحظة يُشبه خوفه، ولا دهشتنا تشبه دهشته. إن القضايا واحدة، لكن الأرواح التي تكتبها تتبدّل، ولذلك لا يستطيع التاريخ أن يغلق باب الفكرة.
فالوعي بطبيعته كائنٌ حي، يتحرك كما تتحرك الحياة، ويقلق كما يقلق الزمن، ويطرح أسئلته الخاصة مع كل مرحلة جديدة، وهنا يظهر الدور الحقيقي لدور النشر فهي ليست مباني تبيع الكتب، بل مصانع للوعي، وورشًا لِصناعة الضوء الأول الذي يذكّر الإنسان بأن الطريق أطول مما يظن، وأن الكلمة التي يبحث عنها قد تكون على مقربةٍ من قلبه لا من قلمه.
وإذا سألنا لماذا لم تنتهِ الأفكار رغم آلاف السنين؟ فالجواب أن الإنسان لم ينتهِ بعد. ما دام هناك عقل يفكر، وقلب يخفق، وعين تراقب، فإن الفكرة ستعود من جديد. وما دام الإنسان يختبر جرحًا جديدًا، وفرحًا جديدًا، وانكسارًا جديدًا، فإن الحبر لن يجفّ أبدًا. فالأرض أقدم منّا، لكن الكلمة أطول عمرًا، وأعمق أثرًا.
وفي النهاية، نحن لا نخشى فراغ الأفكار بل نخشى فراغ الإنسان. فالمعنى لا يشيخ، والكلمة لا تموت، والوعي لا ينطفئ إلا إذا انطفأ صاحبه.
إن سرّ الكون بكل بساطة أن الأرض، بعد كل هذه القرون، لا تزال تمنحنا ما يكفي لنكتب، ولنتأمل، ولنندهش، وكأنها تهمس لنا كل صباح
«ما دام فيكم نبض… ففي الكون فكرة تنتظر أن تُولد.»
وهكذا، يبقى الكتاب هو الكائن الوحيد الذي لا يخضع لقانون الفناء، والرف هو الساحة التي تهزم الزمن دون ضجيج. فحين يشيخ كل شيء حولنا، تبقى الكتب وحدها شابة، متمرّدة، تقف على أطراف الرفوف كأنها جنودٌ تحرس ذاكرة الإنسان. إن دور النشر ليست مجرد مؤسسات إنها آخر القلاع التي لا تسقط، لأنها تبني ما لا يُهدم بقاء الإنسان في الفكرة، لا في العُمر.
ويوماً ما، عندما يفتح جيلٌ لم نره صفحات كلماتنا، سيعرف أن الكتب لم تكن يومًا أوراقًا تُقلب، بل كانت آثارًا تُقاوم الغياب، ورسائلَ بعيدة تقول للعالم
«مررنا من هنا… وتركنا ضوءًا، كي لا يمشي أحدٌ بعدنا في العتمة».