حامد أحمد الشريف
في ظني أن هناك مفاصل في الروايات العالمية، ومحطات غاية في الأهمية لا بد أن يمر بها كل عاشق لهذا الفن الإبداعي الإنساني، سواء أكان قارئًا أم كاتبًا أم ناقدًا فنيًا أو حتى ناقدًا انطباعيًا، ذلك أن هذه الأعمال الأدبية المهمة تحمل أبعادًا مختلفة، وزوايا إبداعية تتميز بها عن غيرها، ونحتاج لمعرفتها والوقوف المتأني عليها، لتشكيل ذائقتنا وقدرتنا لاحقًا، على تمييز الغث من السمين، وكي يتسنى لنا اقتفاء أثرهم الإبداعي والانطلاق من حيث انتهوا.
من هذه المحطات المهمة بالتأكيد «رواية العمى» للكاتب العالمي البرتغالي «جوزيه سارماغو» ليس لأنها حائزة على جائزة نوبل للآداب في العام 1998م، وإنما لأنها تحمل بالفعل بعدًا إبداعيًا يميزها عن غيرها، ويمنحها أصالة وتفردًا وقيمة كتابية وفلسفية غنية جدًا، تستدعي الوقوف عليها وتدارسها من كافة جوانبها، ولعل أهم ما تميزت به نوع الخيال المستخدم في نسج هذا العمل، أو لِنَــقُلْ قيمة الفكرة الأساس التي انطلقت منها هذه الرواية؛ التي تقع في 413 صفحة من القطع المتوسط، وبين يديَّ نسخة منها صادرة عن دار منشورات الجمل، بترجمة المترجم العراقي المعروف علي عبد الأمير صالح.
في هذه المحطة السردية تبدو الفكرة الأساس أو الفكرة المحورية؛ التي بني عليها السرد من الأهمية بمكان حتى إنها تستغرقك تمامًا، فلا تعود تلتفت إلى أي شيء آخر، وهو ما حدث معي بالفعل إذا إنني تخطيت المئة صفحة والمئتين؛ بل أنهيت الكتاب، وأنا لا أزال مشدوهًا من فكرة أن يكون هناك وباءٌ عالمي يُفقدُ البشرَ بصرهم؛ دون أي عطب يصيب أعضاء الإبصار لديهم، وتصبح معه كل المشاهد ذات لون أبيض حليبي، وليست سوداء كما يحدث عادة مع فقد البصر الطبيعي.
وتجلت حنكة المؤلف في استخدام هؤلاء العميان في صنع مجتمع جديد بمواصفات مختلفة، وتتبع سلوكياتهم إن كانوا سيكونون مفجوعين بمرضهم؛ يترقبون ما ستفضي إليه حالتهم الغريبة، أو أنهم سيتأقلمون مع واقعهم الجديد ويعودون لممارساتهم الحياتية المعتادة، ويبدو لأول وهلة أن المؤلف أراد بالفعل استخدام هؤلاء في استيلاد مجتمع بمواصفات خاصة، حيث الجميع أضِرّاء، وإظهار كل فلسفاته من خلالهم، وكما هو معلوم فإن فاقدي البصر غالبًا ما يكونون مسالمين ودودين، تغشاهم السكينة، إذ لا حيلة لديهم للنزوع للشر، طالما كان الطرف الآخر يمتلك قوة جبارة تتعلق بأنه مبصر، وبالتالي لن يكون الصراع متكافئًا، ولكن، ما هو الحال عندما يكون الطرفان كفيفين، أيبقيان على نفس الحال أم أن هناك حالة استثنائية سترصد في هذا العالم الجديد؟!.
وحتى يجيب عن هذه الأسئلة الملحة، كان لزامًا تكوُّنُ مجتمعٍ جديد بهذه المواصفات في مساحات محدودة تسمح لهؤلاء المبصرين أن يحتكوا ببعضهم، ويعيشوا صراعات من نوع مختلف، وهو ما حدث بالفعل عندما قررت السلطات الحجر على العميان في مشفى الأمراض العقلية المهجور، ووضع حراسة مشددة عليهم حتى لا يختلطوا بالأصحاء، وقد نجح المؤلف بالفعل في إيقافنا على تشكل المجتمعات الإنسانية من الصفر، وتطورها لاحقًا لتشهد كل الصراعات الإنسانية المعتادة بشيء من الإقناع والمنطقية الإبداعية وبالتدرج المطلوب.
ولعل هذا أيضًا جانبٌ مهم، يتعلق برمزية العمل وقيمته السيميائية في البعد الإنساني خلاف توجهاته السياسية التي تحدث عنها كثيرون، فنجد أن السرد الحكائي يجتهد لإيقافنا على كل الحياة الإنسانية بصراعاتها وتعالقاتها الزمانية والمكانية، وينبغي هنا الإشارة إلى أن الحوادث التي نمر بها، هي محطات مهمة جدًا تحوي تفصيلات كثيرة، لا ترى عادة إلا في مثل هذه الأوقات، وينبغي علينا اغتنامها، فأكثر ما يكشف الحياة ويسلط الضوء على سلوكيات البشر هي الحوادث التي تقع فجأة ويتضرر منها الجميع، كما حدث في غزة مؤخرًا، واستبقه المؤلف في فكرة وباء العمى، حين بدأ يتشكل مجتمع جديد بمواصفات خارجية وداخلية مختلفة، لكنه سيأخذنا إلى ذات العراك والتناحر المعتاد وسنجد أننا أمام كل أنواع الصراعات التي تحفل بها سائر المجتمعات الإنسانية.
لم تكن أهمية الفكرة الأساس تكمن في فقدان البصر لكل الخليقة، رغم أنها فكرة مجنونة بالفعل وأصيلة وتطرح تساؤلات عظيمة حول إمكانية الحياة إذا ما فقدت هذه الحاسة المهمة، فالرواية في تفصيلاتها تتجاوز هذه الفكرة على أهميتها، وتتمحور حول الطريقة التي سيعيش بها البشر عند فقدهم هذه النعمة، وتكمن صعوبة الكتابة هنا في أن هذه التجربة خيالية بالمطلق، ليس لها جذور في الواقع ويتعين على الكاتب وضع افتراضات غير يقينية، تصور حال العالم بعد هذه الجائحة، وهنا يكمن الإبداع الحقيقي، لذلك ارتأيت التحدث عن العمل من خلال هذه الزاوية المهمة، التي تتعالق فيها الفكرة الأساس بالمكان والزمان والصراع والشخوص، وبالتالي إظهار النتائج المحتملة لوباء العمى الافتراضي.
فالمكان تأثر بشكل يصعب وصفه وقد أجادت السردية بالفعل في إطلاعنا على ذلك عندما اصطحبتنا معها لمرافقة مجموعة صغيرة منتخبة بقيادة زوجة الطبيب المستثناة من حالة العمى الوبائي، حتى تكون العين التي نرى بها كل هذه التطورات، وكانوا قد غادروا مصحة الأمراض العقلية بعد انتشار الوباء بشكل كامل وفقدان الحراسات العسكرية لأبصارهم ومغادرتهم لأماكنهم، وغياب الحكومة التي فقدت هي الأخرى بصرها؛ إن لم تكن قد فقدته من قبل، واضطرار النزلاء للفرار بعد نشوب الحريق المفتعل. والشاهد هنا أننا من خلال هؤلاء الأفراد السبعة وتجوالهم في المدينة وقفنا على تأثر المكان خلال مدة وجيزة، وفقدان الحضارة الإنسانية بشكل مريع، رغم أن الوباء أصاب الإنسان فقط ولا علاقة له بمكونات البيئة المادية، واستطاع بذلك المؤلف إيصال فكرة أن المكان والزمان والشخوص والصراعات ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالإنسان نفسه، إذ إنه يعد بالفعل محور هذا الكون، ما يعني أن فقد هذه الحاسة العظيمة كفيل بتحول المدينة التي يهيمن عليها إلى مدينة أشباح؛ مبانيها ومتاجرها مهجورة، وشوارعها تتكدس بها النفايات ويهيم بها البشر على غير هدى، وتلقى جثت الموتى في الشوارع تنهشها الكلاب الضالة، وتفتقر لأدنى مقومات الحياة الإنسانية، بل بلغ بها الأمر أن الإحساس بوجود المكان فقد تمامًا وأصبح المنزل لا قيمة له على الإطلاق، نطالع ذلك في ص 287 في قوله: (في البداية كنا نتصارع، لكننا سرعان ما أدركنا أننا، نحن العميان، إذا جاز التعبير، لا نملك من الناحية العملية أيَّ شيء يمكننا أن نسميه ملكًا لنا، باستثناء ما نلبسه الآن) انتهى كلامه. وفي هذه العبارة الجزلة بدا أن البشر بعد وباء العمى، فقدوا تمامًا اهتمامهم بالمكان ولم يعودوا يحفلون حتى بالمنزل الذي يقطنون به، وقد أكد هذا المعنى، الوصف الذي أتى على لسان الراوي العليم وهو يتحدث عن المسنة التي بقيت في منزلها إلى أن شعرت بدنو أجلها، وقتها خرجت إلى الشارع، فالمنزل لم يعد مهمًا وخير لها أن تدفن في بطون السباع عوض التعفن داخل شقتها، نرصد ذلك في ص 380: («لماذا تعين عليها أن تخرج إلى الشارع»، لم يكن من دأبها أن تخرج إلى الشارع»، «لعلها شعرتْ أن موتها بات وشيكًا، لعلها لم تحتمل فكرة البقاء وحيدةً في الشقة كي تتعفن هناك»). انتهى كلامه. والجميل هنا قدرة الإنسان على التكيف مع أوضاعه الجديدة وبروز معنى مختلف للمكان يرتبط بالمساحةالضيقة التي يشعر بها الأعمى، فالمنزل تقلص إلى سرير، والشارع أصبح مجرد ممر، والمدينة غدت مبنى واحدًا أو ردهة صغيرة، لكنه تعامل معها وفق مفهومه القديم للمكان وعاد للصراع حولها رغم تفاهتها، وهذه فلسفة رائعة نستقيها من العمل يمكن أن نقول عنها إن الإنسان يبقى يمارس حياته بالطريقة ذاتها وفق المتاح له، فقد يقاتل من أجل مساحات شاسعة من الأراضي تمثل وطنه الكبير، وقد يمارس الدور نفسه ولكن للحفاظ على سرير ينام عليه، أي أنه لا يتخلص من ملكيته بشكل كامل وإنما يغير حجمها ويُبقي ردة فعله نفسها، هذه المعاني استقيناها من ص 92 في قوله: (هنا، المنزل الحقيقي لكل فرد هو المكان الذي ينام فيه، لذا ليس من العجب أن أول شيءٍ شغلَ بال القادمين الجُدد هو اختيار سرير). انتهى كلامه. وهو ما عبرت عنه زوجة الطبيب بشكل أدق في قولها ص 138: «حدّثت زوجة الطبيب زوجها، العالم كله هنا»، انتهى كلامه. فكانت العبارة غاية في العمق والجمال وهي تخبره بأن القاعة التي يقيمون فيها تشكل الحياة بكل تفصيلاتها، وإن التجمعات الإنسانية مهما كان حجمها تعد أنموذجًا مصغرًا من ظروف الحياة التي نعيشها في أماكن أخرى، فالنزاع على المكان الذي يشعل الحروب بين الدول قد يحدث أيضًا حول سرير فقط.
وإذا ما انتقلنا للحديث عن الزمن نجد أن زوجة الطبيب قد مرت بتجربة مهمة عندما أبكاها نسيانُها تعبئة الساعة وفقدان اتصالها بالزمن رغم أنها لم تفقد بصرها، وعد ذلك أمرًا غاية في الأهمية حتى أنها لم تبكي مع كل الأحداث السابقة رغم مأساويتها، بينما أبكاها اكتشافُها فقدان اتصالها بالزمن، مما يشير إلى أهمية الزمن بالنسبة للإنسان، بينما على الجانب الآخر تعين عليها لاحقًا التنكر للزمن، إن لم يكن بالفعل فقد قيمته بالمطلق، مع توالي الأحداث والانخراط أكثر داخل مجتمع العميان، كما أن تهميشه أصبح واجبًا حتى لا تتهم بأنك مبصر، وهي التهمة التي خشيت منها زوجة الطبيب وسعت جاهدة لإنكارها في كل حواراتها، إذ لا يعلم ما يفعل بها إن عرف أنها ترى في مجتمع العميان، ولعل أكثر ما كانت تخشاه، استخدامها للسخرة ونهوضها بكل أعمالهم نيابة عنهم، وهو ما يحدث عادة في الحالات المشابهة، ويمكننا رصد ذلك في ص 286: («هل أنتِ تفتشين عن الطعام»، «أجل نحن لم نأكلْ منذ أربعة أيام»، «وكيف عرفتِ أنها أربعة أيام»، «هذا ما أظنه»). في هذا المشهد البسيط بدا أن الزمن لم يعد يقينيًا وأصبح ذكره مستغربًا، وإذا ما علمنا أن العمى الفردي عادة لا يُفقد الإنسان الإحساس بالمكان والزمان طالما كان هناك من لا يزال يعيشه؛ وينقل هذا الإحساس للأكِفّاء القريبين منه؛ فإن حاجتنا تتعاظم لهذا الوباء الافتراضي كي ندرك أن الزمن قيمة مجازية متغيرة قابلة للفقد ترتبط بنا، وليست قيمة حقيقية قائمة بذاتها، وقد أتى العمل على مواقف كثيرة تؤصل هذه الفكرة حتى أصبح ذكر الزمن جريمة لا تغتفر.
دعونا الآن ننتقل في حديثنا التأويلي للنص إلى الصراع الذي انطلق من حكاية مشابهة لقصة سيدنا آدم - عليه السلام - وابنيه هابيل وقابيل، أي أن شرارته بدأت من الجريمة الأولى العفوية، حين تحرش اللص بفتاة ص 81: (وكان الطبيب يسأل، «أين هو الجرح»، «هنا»، «هنا، أين»، «في ساقي، ألا تراه، هذه العاهرة غرزتْ كعب حذائها فيَّ»، «زلتْ قدمي، لم أتمالكْ نفسي»، كررتْ قبل أن تتكلم من دون تفكير وقد تملّكها الغضب، «ابن الزانية يتحرّش بي، أيَّ نوع من النساء يحسبني»). انتهى كلامه. وهو ما أفضى به لأن يلقى حتفه، نرصد ذلك في ص 111: (نظر إلى الوراء حيث البوابة الرئيسة وانتظر مشدود الأعصاب. ببطء شديد، بين قضيبين حديديين عموديين ، كالشبح ، بدأ يظهر وجهٌ أبيض. إنه وجه رجل أعمى. الخوف جعل دم الجندي يتجمد، ودفعه الخوف لأن يصوّب سلاحه ويطلق نار بندقيته عن قرب.) انتهى كلامه. وهكذا انتهى الأمر باللص المتحرش لأن يكون أول قتيل تتمخض عنه الصراعات الجديدة التي انطلقت بالفعل.
هذا الصراع الذي بدأ فرديًا وعفويًا، ما لبث أن أصبح جماعيًا وبشكل منظم، بالضبط كما يحدث عادة في الحياة، إذ تشكلت مجموعة خارجة عن القانون، فكرت أن من حقها السيادة والوصاية على المجموعات البشرية الأخرى، واستخدامهم للسخرة كما يحدث عادة من تغول الأقوياء أو العملاء على الضعفاء، وهو صراع أفرد له المؤلف مساحة ليست بالقليلة، لما يمثله من أهمية كبرى ومعانٍ تتصل بالسياسة التي كانت بالتأكيد ضمن مستهدفاته الفهمية، إذ إن العمى الفردي كان من أهم نتائجه الضعف والمسالمة وانتظار العون من الآخرين، كما أسلفنا، بينما لن يكون الحال كذلك في مجتمع أفراده كلهم عميان، حيث يتقاسم الجميع نفس القدرات، وبالتالي لم يعد مقياس الضعف والقوة هو الإبصار، طالما كانوا في هذا الأمر سواء، والأدهى من ذلك أن زوجة الطبيب لم تستفد من بصرها، وترددت كثيرًا في مواجهة العميان، وسمحت لهم باغتصابها قبل أن تجازف وتقرر مواجهتهم، بما يشير إلى أن القوة الفردية قد تُهزم أمام الضعف الجماعي، أي أن التكتلات أقوى من التشرذم، ونفهم أيضًا أن الفطرة الإنسانية التي جبلت على إدارة الصراعات، لا تلبث أن تظهر العدوانية والتسلط وممارسة العنف بالأدوات المتاحة، وهي محصلة طبيعية جدًا، وترشدنا لفلسفة عظيمة مفادها أن الاجتماع على فقد معين، يلغي تأثيره بالمطلق ويتم تجاوزه، بمعنى أن فقر كل المجتمع، أو عجزه عن الحركة، أو فقدانهم لأي حاسة من حواسهم الخمس، يهمشها ويلغي تأثيرها، فلا تصبح نقطة ضعف كما هو متوقع، وهنا يتم الارتهان لعناصر أخرى، تظهر التمايز بين الأفراد وقوة كل منهما، وهو ما أجاد المؤلف في نقله لنا من خلال بداية الصراع حول الأماكن «الأسِرَّة» التي لم تعد تفي بالحاجة، وهو ما نرصده ص 159 في قوله: (لأن هنالك على الأقل عشرين محجوزًا أعمى لم يتمكنوا من العثور على سرير وكانوا ينامون على الأرض.) انتهى كلامه. وكذلك إعلان بداية هذا الصراع صراحة في قوله ص 159: (إن تأمين مستلزمات الراحة والسكن لهذا العدد الضخم من المحجوزين العميان ليس بالأمر الهيّن ولن يكون خاليًا من الصراع،). انتهى كلامه. وبالتالي انبعثت بوادر الصراع الذي سيتفاقم لاحقًا، بسبب المكان وتفاوت القوة، وهي الأسباب ذاتها التي تؤجج الصراعات الإنسانية على مدار العصور، وقد وصل هذا الأمر إلى مداه عند حصول مجموعة من العميان على سلاح ناري وبضع طلقات، وعندها قرروا الاستئثار بالطعام واستخامه للمقايضة والتحكم في كل المجاميع وابتزازهم، نرصد ذلك بداية من الصفحة 187 في وصفه: (ومن ثم، شاهدتْ زوجة الطبيب، مفزوعةً، أحد السفاحين العميان يستل مسدسًا من جيبه ويرفعه بفظاظةٍ في الهواء، كانت الطلقة قد تسبّبت بتهشم قطعة كبيرة من الجص وسقوطها من السقف على رؤوسهم غير المُصانة) انتهى كلامه. فكان ذلك إيذانًا بوصول الصراع إلى أوجه، وتسيد مجموعة من العميان لبقية المجاميع وهو العراك الذي امتد حتى انتهى ص 275 عند اشتعال النار في العنبر الذي تحصن به اللصوص بعد مقتل قائدهم، نرصد ذلك في قوله: (بوسعها سماع صراخ السفاحين الأوغاد في الداخل، في تلك اللحظة على وجه الدقة خطر ببالها فجأةً، «إذا افترضنا أن لديهم ماء وتمكنوا من إخماد ألسنة النيران»،) حتى قوله: (وبشكل مشوَّش أضاع السفاحون بلا طائل الماء القليل الذي لا يزال بحوزتهم، وها هم أولاء يحاولون بلوغ الشبابيك، وترنحوا خلال تسلقهم مساند رؤوس الأسرّة التي لم تطالها النيران بعدُ،) انتهى كلامه. وهكذا كانت نهاية هذه المجموعة المارقة وخروج بقية العميان المضطهدين للحياة مرة أخرى وتخلصهم من سجنهم داخل مستشفى المجانين، ليمتد بنا الصراع داخل المدينة التي فقدت كل معالم الحياة، والشاهد هنا أن السردية أجادت، في توقع كل هذه المعارك الناتجة من فقد حاسة الإبصار، وجعلتنا نقتنع بشكل كبير أن هذا ما سيحدث في الواقع فيما لو أصبح الخيال حقيقة، وفقد البشر قدرتهم على الإبصار، بل إن هذه التفاصيل الصغيرة وقعت بالفعل، وشاهدها كل العالم في غزة خلال السنتين الماضيتين وكأن الغزيين اتفقوا على تجسيد صراع ساراماغو على أرض الواقع باستبدال مجتمع العميان التائهين بمجتمع الجياع أو البطون الخاوية والمنازل المهدمة.
إن قيمة هذا العمل الملحمي تكمن في الشخوص أو الإنسان الذي مورست عليه تقنيات سردية مختلفة رغم أهمية كل العناصر السابقة التي تطرقنا لها، وحتى تلك التي لم نأتِ على ذكرها، فهو بداية اختار إسناد الصوت السارد للراوي العليم بغية الوصول إلى شمولية الرصد وتعدد زواياه، ونقله لوجهات النظر المختلفة من دون اقتصاره على بطل أوحد، رغم وجوده في هذا العمل، وأعني بذلك زوجة الطبيب التي لم تفقد بصرها، وكانت هي العين التي يرى بها الجميع، وعُدَّ سهلًا تكفُّلُها برواية العمل كاملًا بضمير المتكلم، لكن المؤلف كان له رأي آخر فالصراع يدور حول وباء العمى وتفشيه، وبالتالي شعر بحاجتنا لسماع هؤلاء العميان وهم يصفون لنا تجربتهم لا أن يأتي مبصر ويصف لنا ما يراه منهم، والهدف بالتأكيد هو البعد عن سطحية السرد وهشاشته، واستبداله بتلك الحوارات العميقة، التي شكلت في مرحلة ما واحة غناء من الفلسفات والأفكار، التي لا يمكن سردها إلا على لسان العميان وإن كان هناك بالتأكيد زاوية تمثل زوجة الطبيب التي كانت لها رؤيتها الخاصة وفلسفتها العميقة المرتبطة بالحدث كوصفه ص 91: (توقف برهةً، يبدو أنه كان على وشك أن يعطي اسمه، إلا أن ما قاله هو، «أنا رجل شرطة»، وفكرتْ زوجة الطبيب مع نفسها، «هو لم يذكرْ اسمه، هو أيضًا يعرف أن الأسماء غير مُهمة هنا»،) انتهى كلامه. وبالفعل في مجتمع العميان أو أي مجتمع يمر بجائحة مزلزلة، تفقد الأسماء قيمتها، وقد نجح المؤلف في ترسيخ هذا الأمر بالمطلق، فكل الشخوص كانوا مجرد أوصاف ولا وجود لأي اسم في كامل العمل بالضبط كما حدث في غزة التي تحولت إلى أرقام.
وبالعودة لزوجة الطبيب نجد أن المؤلف أوكل لها بداية - كما أسلفنا - إظهار بعض الأفكار العميقة المرتبطة بالعالم المرئي، وهذا يعني أنه كان عليها رؤية جزءٍ من الصورة لا يراه غيرها، وهو ما أبدع فيه أيما إبداع، فالإنسان شكل بالفعل حجر الزاوية في هذا الملحمة، ولقد أجاد النص في وصف التحولات والصراعات الشخصية، التي عاشها كل أبطال العمل بداية من صدمة الإصابة نفسها كما حدث مع الأعمى الأول الذي فقد بصره فجأةً وهو يقف عند إشارة المرور الضوئية نرصد ذلك في قوله ص 21: (كانت عيناه مفتوحتين على وسعهما، جلد وجهه المتغضّن، حاجباه اللذان قطّبهما على حين غرة، هذه كلها، مثلما يرى الجميع، تشير إلى أن الكَرَب أصابه بالجنون) حتى قوله: («أنا أعمى، أنا أعمى)، كان يردد يائسًا بينما كانوا يساعدونه كي يترجّل من السيارة، والدموع المتدفقة من تلكما العينين اللتين زعم أنهما ميتتان، تضيئان حتى أكثر من قبل.). انتهي كلامه.
انتقلنا بعدها إلى مرحلة تقبل الصدمة والتعايش معها، وهو ما حدث بعد حصر المصابين ونقلهم إلى مستشفى الأمراض العقلية المهجور، وبدا هنا أنهم لم يعودوا يتبرمون كما كانوا سابقًا، وإنما أصبحوا معنيين بالتأقلم مع هذه الجائحة والتعايش معها وتكييف حياتهم بما يناسبها، ونرصد ذلك بداية في ص 75 في قول الفتاة ذات النظارات الداكنة: («سيكون من الأفضل، دكتور، إذا ما اضطلعتَ بمسؤولية الردهة، على كل حال، أنتَ طبيب». «ما نفع الطبيب من دون عينين أو عقاقير»، «لكنك تمتلك بعض السلطة». الخ) انتهى كلامه وكما يلاحظ، أنهم بدأوا هنا بالانتقال إلى المرحلة الثانية، التي انشغلوا فيها بأنفسهم وترتيب أوضاعهم وتناسَوْا مصيبتهم في أبصارهم.
وأتت بعدها مرحلة الصراعات الصغيرة والكبيرة، التي ستشكل حياتهم وفلسفاتهم وتؤهلهم للانتقال إلى المرحلة الأخيرة، بعد خروجهم من المصحة وهي المرحلة التي أُغرق السرد فيها بالفلسفات والأفكار، بما يتناسب واقعيًا مع تبدل السلوكيات، والإثراء الكبير الذي أنتجته هذه التجربة على مرارتها، وهذا ما تحقق بالفعل ورصدناه في أكثر من موضع وكانت عبارات جزلة وعميقة، مثلت القيمة الحقيقية للرواية وأبعادها السيميائية التي تناولناها في هذه القراءة، فكما هو معلوم أن الإنسان وليد تجاربه القاسية، وبقدر قسوتها بقدر ما تكون خبرته إذا ما استطاع تجاوزها والنجاة منها، لذلك عُدَّ منطقيًا شيوع الفلسفات والأفكار العميقة عقب خروجهم من عنق الزجاجة وعودتهم إلى الحياة بعد أن كاد يُقْضَى عليهم داخل ردهات المستشفى المهجور، وقد رصدنا ذلك في عدة مواضع منها ص 318: (كم تغدو الحياة هشةً حين تُهجر). وكذلك في ص 312: (لا تعرف الاختلاف بين أن يكون المرء مغمض العينين وأن يكون أعمى) وص 320: (هذه هي الأشياء التي نقولها حين لا نعرف كيف نلقي نظرةً جيدة على أنفسنا،) وص :323 (من دون العيون تغدو المشاعر شيئًا آخر، لا نعرف كيف، لا نعرف لماذا، لقد قلتِ إننا ميتتان لأننا عمياوان، هو ذا حالنا فعلًا). ونصل إلى ذروة هذه الفلسفات في ص 402 وقد أوشكنا على المغادرة ويتعين علينا حصد الجائزة الكبرى. وقدمتها لنا زوجة الطبيب في حوارها الثري جدًا، تقول: («أنتَ مخطئ، الصور ترى بعيون أولئك الذين يرونها، الآن فقط بات العمى قدر الجميع»، «أنتِ لا تزالين قادرة على الرؤية»، «سأرى أقل فأقل طول الوقت، مع أنني قد لا أفقد بصري سأغدو عمياء أكثر فأكثر لأنني لا أملك أحدًا يراني». انتهى كلامها. كم هي جميلة وثمينة هذه العبارة، فنحن سنصاب بالعمى، بمعنى أننا لن نعود للاهتمام بالمشاهد إذا كنا وحدنا من نرى، كمثل الإنسان الذي لن يكون مثقفًا إذا ما عاش في مجتمع جاهل وأمي، إذ لا أحد وقتها سيعرف قيمة ثقافته، أو بالأحرى لن يرى من هذا الجانب، وهو ما تحقق أيضًا في مجتمع غزة فلسطين إذ لم يعد هناك فرق بين البشر وقت أن اجتاحهم الفقر والجوع وعمتهم المجاعة بعد القتل والتشريد، وأصبح دكتور الجامعة والمعلم والمهندس والتاجر حالهم حال أولاد الشوارع المعدمين، وفقدت الإنسانية قيمتها لدى أهل غزة المنكوبين.
ختامًا ينبغي أن نرفع القبعة للمؤلف في قدرته التخيلية العالية جدًان حيث تنتفي الواقعية مطلقًا في كل أحداث العمل إذا إنها بنيت على افتراض غير منطقي، أو لنقل غير واقعي، إذ لم يحدث أن كان هناك مجتمع بهذه المواصفات، ويُعد من شطحات الخيال، أو لنقل من أعلى مراتب الخيال، التي يخلق فيها الكاتب مجتمعًا إنسانيًا غير موجود على أرض الواقع، وبالتالي فإن كل الأحداث مُتخيَّلة أتى بها المؤلف من بنات أفكاره وتوقعاته الإبداعية، وإن ارتكزت على الفطرة الإنسانية، المجبولة على التكيف والصراع والتنافس والإعمار، مهما كانت الظروف، وبالتالي كان علينا الانصهار في هذه الحالة الحليبية، وتوقع ما سيحدث لاحقًا ونحن نردد: أيمكن أن يحدث ذلك بالفعل ونصبح كلنا عمياناً؟! قبل أن تؤكد لنا أحداث غزة الأخيرة عبقرية ساراماجو التي «أفصحت عنها غزة»!.