صالح الشادي
الأدب هو ذلك الرابط المشترك، الذي تتقاسمه كل الشرائح الإنسانية بمختلف توجهاتها، وتنوع جهاتها. جين من جينات التكوين المعرفي لسلالة آدم على الأرض. فهو مستودع الذاكرة، ومسرح التجربة، وحديقة الأخبار. ويأتي غناء القصائد الشعرية أو إنشادها، كنوع من أنواع الفنون الأدبية الراقية، والمرتبطة ثقافياً وحضارياً بتاريخ الإنسان.
ففي الغناء باعث نفسي خفي، يشكل نوعاً من أنواع التطبيب الذاتي، أو ديالكتيكية للتوازن الفطري. وفي استرجاع مضامين الأغنية من الحكمة، أو المأثور، أو المثل الشعبي، أو الغزل.. إعادة لهيكلة المزاج، وفلترة لحالة الفكر، وإيقاظ لروح العاطفة. والأمر ليس برؤية فلسفية مجنحة أتشدق بها.. بل هو واقع علينا أن نوقن به.. مهما اختلت الرؤى، أو تباينت الآراء حول فكرة الغناء أخلاقياً أو اجتماعياً.. لأنه نمط لا شعوري من شأن الفطرة.. وأنظر إلى علاقة الرضيع بهدهدة الأم وبإنشادها.
لقد حظي الطرب في تاريخ العرب قبل وبعد بزوغ فجر الإسلام باهتمام الموثقين. وأشار أحد أعلام الأدب في الأندلس إلى أن «أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهراً فاشياً»، ذاكراً المدينة، والطائف، وخيبر، ووادي القرى، ودومة الجندل، واليمامة. أي (سعودياً) حسب وصف صديقنا المبدع الأستاذ الفنان محمد عبده. فكل تلك المدن تدخل ضمن نطاقنا التاريخي والجهوي.. لذا فمسألة ارتباط أهل جزيرة العرب بالغناء ليست بحالة دخيلة، بل هي تركيبة ثقافية، متوارثة وأصيلة.
في الجاهلية، كان نتاج معظم الشعراء يُنشد بأفواه طبقة من النساء اللاتي احترفن الغناء بمصاحبة آلات القرع.. كالطبل، والدف، والصنج، والجلاجل.. وهي الآلات التنغيمية المعروفة آنذاك.. وكان يُثنى على الصوت الحسن، وعلى الغزل الذي لا يخدش حياء.
أما في عصر صدر الإسلام، فقد وردت إشارات نبوية كريمة تؤكد مكانة الصوت الحسن وتقبّل الغناء في المناسبات، كالأعراس والقوافل، ما دام لا يحوي منكراً. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري وقد أعجبه حسن صوته: «لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود». كما روي عنه عليه الصلاة والسلام إقراره للغناء في الوليمة، مستشهداً بأبيات من الغزل العفيف. وجاء في رواية أخرى توجيهه صلى الله عليه وسلم لغلام كان يحدو بالإبل بقوله: «رويدك يا أنجشه، سوقك بالقوارير»، في إشارة إلى رفقته بالنساء.
ومع اتساع رقعة الدولة الإسلامية، برز في فن الغناء المكي عدد من الأعلام الذين وضعوا أساسيات الموسيقى العربية، أمثال سعيد بن مسجح، الذي أخذ فنه عن الفرس والروم وأسسه على النغم العربي. وكذلك ابن سريج كمعلم بارز في اللون الحجازي. إلى جانب ابن محرر، ومعبد.. ومالك الطائي، الذي كان أول من استخدم آلة العود في مكة.. وأبدع في مقامات الصبا. وكانت قصائد شعراء صدر الإسلام وكبار الجاهلية هي المادة الخام لأغنيات ذلك الزمن، مما يؤكد تلاحم الشعر والغناء في نسيج ثقافتنا.
وعبر تاريخ المنطقة الثقافي، لم ينقطع توارث ذلك الفن جيلاً عن جيل، حتى انتهى إلى عهد قريب.. مع جيل من المغنيين المهرة، ليمر القطار الفني بمنجزات طلال مداح، ومحمد عبده، وعبادي الجوهر، وعبدالمجيد والماجد.. وغيرهم.. لتصبح قصائد أمراء الشعر والفكر المعاصرين، هي أغنيات هذا العصر التي تحدثت عن واقعه، واختزلت في ثناياها حادثاته الفكرية، والعاطفية والاجتماعية.. كما روحت برقتها عن قلوب أناسه بعفة وغذاء روحي، فكانت بلسماً.
إذن، فالغناء رسالة ذات عطر، سامية المغزى. وقيمة من القيم الفطرية التي من شأنها - إن هُذبت - أن تسهم في عملية ارتقاء شامل بذوق أمة بأسرها.
ما يطربني في هذا الأمر.. هو ذلك الرقي الذي طرأ على فكر القصيدة الغنائية السعودية الحديثة.. فبعد أن كانت النصوص تمثل صوراً رتيبة بلا نبض وبلا روح.. أضحت ذات معانٍ حية، إبداعية، مرفرفة، خلاقة.. وذات أثر نفسي طيب لتسمو بقيمة الحب في المجتمع، ولتسقط فكرة الكراهية.. ولتتسيد مفاهيم الوفاء بالعهد، والتواد، والشفافية.. في أفخم مجتمع إسلامي وسطي معاصر.. وهو ما يعكس واقعاً حضارياً مميزاً لا يغفله حد.. كما أنه يشير إلى رقي ملحوظ في فلسفة التفكير الجمعي، وسمو في عاطفته، وتوهج في ذائقته. وما الشاعر إلا مرآة لمجتمعه.. فيا حبذا لفن يصنع الدهشة، ويستنطق المنطق.. ولإبداع لا يُمل.
فـ «أغانينا» اليوم لم تعد مجرد لحن عابر، بل هي سجل حافل لتحولات الوطن وأحلام أبنائه، تحمل في ثناياها روح الماضي وألق الحاضر، وتنطلق نحو المستقبل بنفس ثاقف وذوق رفيع، مؤكدة أن النغم الأصيل هو الابن الشرعي للكلمة المعبرة، والشقيق التوأم للروح المتطلعة إلى الجمال.