ناهد الأغا
بلمعة تشبه الحنين تشع الأطعمة السعودية أشبه بحلم نضج على نار هادئة.. لقد كبرنا ولازلنا نتذكر صوت القدر وهو يغلي، ورائحة الهيل والقهوة تتشكل من بخار يصعد بهدوء، وصباحات كانت فيها البيوت تستيقظ قبلنا، ونكهة السمن البلدي تعبر الممرات، وضحكات الجدات وهن ينسجن أسرار الطهو، ومع كل هذا الحنين، بدت زيارتي لمهرجان الوليمة كامتداد طبيعي لذاكرتي، رحم دافئ يجمع بين ما عشناه وما نعيشه الآن، ومهرجان الوليمة الذي تنظمه هيئة فنون الطهي السعودية للاحتفاء بتراث المملكة الغني في فنون الطهي، تجلت لي مساحة أوسع من تذوق الطعام، رحلة في عمق الهوية، ونافذة تطل على تاريخ ينهض من بين الروائح والأطباق، وهو الأكبر من نوعه في المملكة والمنطقة، حيث قدم تجربة ثقافية وفنية وتراثية متكاملة تجمع بين الطهي والفنون والتعليم والترفيه في أجواء عائلية فريدة، تشبه دفء البيوت الأولى.
في قلب جامعة الملك سعود، حيث انعقدت الاحتفالية بين 27 نوفمبر و6 ديسمبر، وتألق المهرجان كمرآة تكشف التنوع الهائل بين مناطق المملكة الثلاث عشرة وكل منطقة تحضر بطبقها، ورائحتها، وموسيقاها الخاصة، ودقة التنظيم في تلك المساحات الست التي امتد عبرها الحدث،منطقة تراث فن الطهي التي تحتضن الموروث الغذائي بكل تفاصيله، والأسواق التراثية التي تنبض بالبهارات والعطور والورد الطائفي، والحرفيون الذين يصنعون السدو والفخار والنسائج أمام الزوار، وكذلك في مسرح الوليمة و العروض الموسيقية والفلكلورية؛ العرضة النجدية، أمسيات العود، والفن الخليجي، كلها تجتمع في مشهد يربط الفن بالهوية.
وأما الاطفال فكان لهم عالم يشبه الحلم، مساحة يتعلمون فيها فنون الطهي والزراعة، ويكتشفون المطبخ السعودي بوصفه جزءاً من مستقبلهم، وبين المطاعم المتنوعة التي تجاوز عددها خمسين، وبين المتاجر التي تعرض أدوات المائدة والاكسسوارات والملابس التراثية، كانت التجربة شاملة لكل أفراد الأسرة.
وفي مشهد يضيف بعداً عالمياً شهد المهرجان تنظيم جوائز جورماند الدولية، حيث تلتقي ثقافات الطعام من خمس مناطق في الشرق الأوسط بمشاركة أكثر من مئتي دولة لتكريم افضل الكتب والبرامج المعنية بفنون الطهي حول العالم.
وأنا أتجول بين أروقة مهرجان الوليمة، أشعر أن الأصالة تلتقي بالابتكار في توازن ساحر، بين نكهات تروي التاريخ وعطور تهمس بالذكريات، وأصوات موسيقى وفلكلور تعكس هوية المملكة في أبهى صورها. لقد اتسعت خطواتي بين المطاعم والمتاجر، شعرت خلال زيارتي أن المائدة السعودية وطن صغير يجمع كل ما أحببناه، وصنعنا منه تراثًا نابضًا بالجمال..
وهي وعد بأن الهوية السعودية ستظل حيّة، متجددة بالإبداع، حاضرة في المائدة وفي قلوب كل من يزور هذا المكان.. لتدرك أن الحياة تمنحك لحظات ندية تستحق أن تتوقف عندها وتهمس: نعم.. للحياة نكهة أخرى، وللأيام وجه أجمل.. وهنا في السعودية.. ينتظرك الجمال بكل تفاصيله.