فائز بن سلمان الحمدي
لم تكن السعوديّة يومًا مجرّد دولةٍ تقف على أطراف الأحداث، بل كانت روحًا عربيّةً حيّة تنبض في قلب هذه المنطقة الملتهبة، تُمسك بزمام الحكمة حين يفلت من أيدي الآخرين، وتبسط ظلّ اتزانها على أرضٍ أنهكها ضجيج الصراعات. وفي زمنٍ تتعاقب فيه العواصف بلا انقطاع، وتتناوش فيه الدولُ الأزمات كما تتناوش السباع فريستها، نهضت المملكة بقيادة الأمير محمد بن سلمان نهضةً تشبه يقظة السيف حين ينكشف غمده؛ يقظةٌ تُعيد تشكيل المشهد من جذوره، وتمنح العرب مرجعًا ثابتًا في عالمٍ تزداد فيه الضوضاء ويقلّ فيه العقلاء.
ففي سوريا، حيث انهال الخراب على المدن كما ينهال المطر، وحيث امتلأت السماء برائحة البارود، تمدّد الصوت السعوديّ كنسمةٍ تُصغي لأوجاع الناس قبل أن تُخاطب السياسيّين، يبحث عن حلّ يستعيد للدولة عافيتها، وللإنسان كرامته، وللأرض سكوتها المطمئن بعد سنين من الصراخ. لم تنظر المملكة إلى سوريا بوصفها ساحة نفوذ، بل بوصفها جارًا جريحًا، وعهدًا عربيًا ينبغي الوفاء له مهما طال الليل.
ثم جاء السودان الذي تقاذفته أمواجُ الصراع حتى كاد يغرق في ظلامٍ لا ساحل له. هناك، وحين اتّخذت قوى كثيرة من الأزمة ممرًا لمصالحها الضيّقة، كانت السعوديّة تتقدّم بخطى الواثق، تجمع المتخاصمين، وتطفئ جذوة النزاع كلما تسلّل الشرُّ إلى شقوق الوطن. لم تدعم طرفًا لتنتصر على آخر، بل دعمت السودان ليبقى السودان، كأنما تقول للأرض: لن أسمح أن تنطفئ فيك روح العرب مهما اشتدّت النار حولك. وفي لبنان، ذلك البلد الذي أرهقته الأيدي المتداخلة والولاءات المتشابكة، كانت المملكة كاليد التي تلتقط الشظايا من قلب طفلٍ يبكي. تدخل لا بوقعٍ صاخب، بل بصفاءٍ يجعل الناس يطمئنّون أنّ في هذا العالم دولةً لا تريد من لبنان شيئًا سوى أن يقوم على قدميه، ويتصالح مع نفسه، ويستعيد ما بعثرته سنوات النزاعات. كانت السعوديّة بالنسبة للبنان جمالًا يقاوم القبح، وعقلًا ينازل الفوضى، ودفئًا يعاند برد السياسة حين تصبح بلا إنسانية. ولم تغب فلسطين، ولن تغيب يومًا عن قلب المملكة. ظلّت السعوديّة تردّد بصوتٍ لا يعلوه صوت: إنّ القضيّة ليست ملفًا قابلًا للمساومة، ولا قضيةً تُطوى بضغط الزمن، بل هي جرحٌ عربيٌّ مفتوح، لا يندمل إلا بالعدل. كانت تتحرّك في المحافل الدولية كما تتحرّك أمٌّ في الدفاع عن ابنها: بحنانٍ لا يلين، وبصلابةٍ لا تُقهر، وبإصرارٍ يذكّر العالم أنّ التاريخ لا يكتب بالقوة وحدها، بل بالحقّ حين يثبت في موضعه. وفي مقابل هذا كله، بينما تختار بعض الدول أن تُشعل الحرائق لتدفئ مقاعدها الباردة، كانت السعوديّة تُطفئ النيران وتفتح الأبواب وتُصلح ذات البين. وبينما يحوّل البعضُ الأزمات إلى أسواقٍ للنفوذ، حوّلتها المملكة إلى ساحاتٍ تُرفع فيها رايات المصالحة، وتُنقذ فيها الشعوبُ من الغرق. كانت تمضي في طريقٍ لا يمضي فيه إلا الكبار: طريق البناء في زمن الهدم، وطريق الإصلاح في زمن الانقسام، وطريق المبادئ في زمنٍ صار للمصالح فيه أصابع أطول من الضمائر.
ومع الأمير محمد بن سلمان، اكتسبت هذه الروح السعودية لغةً أكثر حضورًا، ونَفَسًا أكثر جراءة، ورؤيةً تتجاوز حدود اللحظة. فهو قائدٌ لم يكتف بأن يُدير الحاضر، بل أراد أن يُعيد ترتيب المستقبل. يتقدّم في السياسة بخطواتٍ محسوبة، ويعلن في الدبلوماسيّة أن المملكة قادرةٌ على أن تقول كلمتها دون أن ترفع صوتها، وعلى أن تغيّر موازين العالم دون أن تُلوّح بغير ثباتها. صارت المملكة بفضل قيادته أشبه بنجمٍ تهتدي به السفن، لا يسطع من أجل ذاته، بل من أجل أن يُضيء للآخرين طريقهم حين تتخبّطهم الأمواج. وهكذا، حين ينظر المرء إلى خارطة العرب من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، يكتشف أن السعوديّة لم تكن يومًا على هامش الأحداث، بل كانت دائمًا في صميمها، تُطفئ نارًا هنا، وتُضمّد جرحًا هناك، وتُقيم جسرًا بين من فرقهم الخلاف، وتُذكّر الأمة أنّ بين الدول من تُشعل النيران لتكبر، ومن تُطفئها لتكبر الأمة معها. والمملكة اختارت أن تكبر مع الأمم، لا فوق أنقاضها. إنّها السعوديّة... الدولة التي إذا اشتعلت الفتنة سارعت إلى إخمادها، وإذا تعثر العرب كانت هي سندهم، وإذا ضلّ الطريق كانت هي البوصلة التي تشير إلى الفجر. دولةٌ لا تبحث عن دور، بل خُلقت لهذا الدور؛ دولةٌ إذا قالت صدقت، وإذا وقفت ثبَتت، وإذا تقدّمت ألهمت، وإذا امتدّت يدها حملت الخير، لا الشرّ، والسلام لا الفوضى، والبناء لا الهدم. هذه هي الحقيقة التي تُكتب اليوم، وستقرؤها الأجيال غدًا كما يُقرأ النور حين يتسلّل من بين الغيوم الكثيفة، فيكشف للعين معنى الثبات، وللقلب معنى الطمأنينة، وللتاريخ معنى أن تكون السعوديّة في هذا العالم... دولةً تُطفئ النيران في زمنٍ أتقن كثيرون إشعالها.