محمد العشيوي - «الجزيرة»:
في ليلة شتوية دافئة بالحنين، أطلل فنان العرب محمد عبده على جمهوره في «موسم الرياض» ضمن جلسة شعبيات نادرة، قدّم فيها واحدة من أكثر الأمسيات الغنائية ثراءً وتوثيقًا في مسيرته الممتدة لستة عقود، الجلسة التي امتدت على وصلتين طربية خالصة، شهدت أداءً وُصف بالتاريخي، حيث تنقّل فنان العرب بين 24 عملًا شكّلت إرث الأغنية الشعبية السعودية، وأعاد بها ذاكرة الفن إلى لحظاته الأولى.
وكان من بين أبرز محطات الليلة غناء محمد عبده لأغنية «المداوي» للمرة الأولى على المسرح، بعد أن طرحها قبل ساعات ضمن جديده الفني، لتكون بمثابة هدية طازجة لجمهوره ومحطة تؤكد استمرارية عطائه، كما شهدت الجلسة توثيقًا مسرحيًا لأول أداء حي لأغنيات لم يسبق أن قدّمها في الجلسات الغنائية، مثل «عقد النقا» و«يا حبيب الروح»، التي حظيت بأول ظهور مسرحي رسمي لها وسط تفاعل واسع.
هذا التنويع الفريد في الاختيارات عزز قيمة الجلسة بوصفها محطة أرشيفية تُضاف إلى ذاكرة المسرح السعودي، إذ جاءت الأعمال الشعبية بثرائها اللحني والكلمات العميقة لتؤكد أن الإرث الذي حمله محمد عبده لستة عقود لا يزال يتجدد ويُعاد تقديمه بروح معاصرة دون أن يفقد أصالته.
وعلى خشبة المسرح، جلس فنان العرب ممسكًا بعوده، ليقود الجمهور في رحلة صوتية دافئة تجلّى فيها بسلطنة أدائية طربية، ورافقه المايسترو هاني فرحات، الذي قدم بصحبة فرقته الموسيقية، توليفة استثنائية من التلوينات الطربية، ليشكّلا معًا حالة فنية مكتملة بنبض موسيقي متقن.
وقد تصدرت أغنية «لي ثلاث أيام» مشاهد التفاعل، حيث بدأ المسرح كأنه يستعيد الزمن الجميل، بينما أعاد الجمهور بصوته الجلي الحياة لروح الطرب الأصيل، كما برزت أعمال أخرى أخذت الحضور نحو ذكريات ممتدة، مثل «عل ما باس» و «أنا وخلّي»، التي قدّمها محمد عبده بروح اشتياق أعادت تعريف متعة الإصغاء.
ليلة تُكمل ما بدأه الأسبوع الماضي
وجاءت هذه الجلسة بعد حفله الغنائي الأسبوع الماضي الذي تغنّى فيه بـ 12 عملًا ما بين الكلاسيكيات والأعمال الحديثة، لتكون جلسة الشعبيات امتدادًا فنيًا مختلفًا لا يقل زخمًا، تُعيد للأغنية الشعبية السعودية حضورها في الذاكرة وتكشف عن قدرة فنان العرب على إحياء هذا اللون بروح منفردة.
وقد تنقل محمد عبده خلال الليلة بين أعمال راسخة في أرشيفه الشعبي، منها «سايق الخير» التي أدّاها في جلسات متعددة سابقًا، بالإضافة إلى «قالوا نسيته، يا شايل الظبي وطريح الهوى، والناس عليك يا ريم، وقفتني، عذبني» ليصنع مزيجًا من النوستالجيا والدفء، امتد على المسرح كرحلة موسيقية حملت الجمهور إلى ذاكرة السعودية الفنية عبر عقود.
خاتمة ليلة تُحفظ في الذاكرة
لم تكن الجلسة مجرد أمسية غنائية، بل ليلة أرشيفية تعيد رسم علاقة محمد عبده بالجمهور، وتفتح بابًا جديدًا لمرحلة توازن بين التجديد وحضور الطرب الأصيل. فبـ 24 أغنية وتنوع موسيقي مدروس، أثبت فنان العرب مجددًا أن الشعبيات ليست مجرد لون فني، بل ذاكرة تتنفس على المسرح، وسلطنة لا يفك شيفرتها إلا صوت حمل الأغنية السعودية إلى العالم.