د.عبدالله بن موسى الطاير
هناك قناعة أن السياسية لا أخلاق لها ولا مبادئ، ويستشهدون بالميكافيلية على صحة زعمهم، وهناك من يدفع بأن التعميم لغة الجهلاء وأن الذي يدقق في أدبيات السياسة يجد لها أطرا أخلاقية متفاوتة تبعا للظرف السياسي. وأقول بما يقول به غيري قديما وحديثا إن السياسة المتحررة من القيود الأخلاقية يمكن أن تحقق انتصارات على المدى القصير، لكنها غير مستدامة.
الناخبون في الدول الديموقراطية، والأصدقاء والحلفاء، وحتى الخصوم، والتاريخ يعاقبون في نهاية المطاف الساسة المجردون من الأخلاق والمبادئ. أكثر السياسيين فاعلية هم أولئك الذين يجمعون بين وضوح الهدف والمرونة في القرار بحسب الظروف.
إنهم نهازون للفرص، بيد أنهم ثابتون على القيم الأساسية التي تضفي على أفعالهم معنى وشرعية. فالسياسة الجيدة منضبطة أخلاقيا بالمسؤولية، وذات انتهازية إستراتيجية وليس العكس.
يتوهم الساسة غريبو الأطوار، الذين يغتنمون الفرص بأي وسيلة أنهم يكسبون نفوذا في عالمٍ فوضوي تنتزع فيه المصالح انتزاعا دون النظر إلى العواقب طويلة المدى.
هذا النهج يُقوّض الثقة في السياسة، ويثير ردود فعل عكسية، ويزيد من مخاطر ردود الفعل وفق قانون نيوتن الثالث.
البراعة في العلاقات الدولية لا تكمن في الانتهازية القاسية، بل في تعزيز القدرة على التنبؤ، والتنافس المنضبط لتحقيق المصالح وتمكين الشركاء من التعاون، وتعزيز المكاسب المشتركة بمرور الوقت. وإذا ارتبطت الانتهازية العشوائية والتكتيكية في التنافس بين القوى العظمى بعدم القدرة على التنبؤ فإنها ستكون أسرع السبل إلى الانتحار الجماعي ودمار مكتسبات البشرية.
لا أحد ينكر أن الحرب الباردة كانت قادرة على تدمير العالم لولا وجود ساسة عقلاء عززوا التنبؤ المتبادل؛ استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، القادرتان على تدمير بعضهما ومن حولهما، معاهدات الحد من الأسلحة وخطوط الاتصال الساخنة لتوقع التحركات وتجنب التصعيد.
بسبب هذا الأسلوب غير الانتهازي، وبتعزيز قيمة توقع سلوك الآخر لم تقع حرب مباشرة بين القوتين العظميين، على الرغم من صراعات عديدة نشبت بينهما بالوكالة. لمقارنة سلوك القطبين فيما بعد الحرب العالمية الثانية بفترة ما بين الحربين العالميتين، سيتضح أن انتهازية هتلر المتواصلة، ومباغتته لجيرانه باستخدام الخداع والوعود الكاذبة حققت له مكاسب تكتيكية، في البداية، إلا أنها في نهاية المطاف وحدت الخصوم ضده، مما أدى إلى تدمير ألمانيا النازية.
ربما تكون تجربة بسمارك في توحيد المانيا أحد الدروس المهمة للساسة، فقد حقق انتصارات قصيرة الأجل بوسائل غير أخلاقية، ومن أجل استدامتها تحولت دبلوماسيته من الانتهازية السريعة والانتصارات قصيرة الأجل إلى نهج مختلف من التعاطي السياسي الذي يجعل أصدقاء المانيا وخصومها يتوقعون سلوكه ويطمئنون إلى الضوابط التي قيّد بها السياسة مما حافظ على السلام في أوروبا لعقود.
وبالمثل، سعت الصين في عهد دينغ شياو بينغ 1978 - 1992م إلى اغتنام الفرص الاقتصادية مع الحفاظ على القدرة على التنبؤ الاستراتيجي، مما أتاح عقودا من النمو دون صراع، لأنها ببساطة جعلت الأعداء والأصدقاء يتوقعون قراراتها ويتنبؤون بسلوكها دون إرسال رسائل انفعاليه أو ارتكاب سلوكيات تقوض الثقة فيها.
عدم القدرة على التنبؤ في العلاقات الدولية يؤدي إلى تحولات سياسية مفاجئة وتهديدات للحلفاء والأصدقاء قبل الأعداء ويضر بمصداقية الدول، مما يسرّع بالاستقلال الإستراتيجي عن تلك السياسة المتهورة ويعزز التحوّط العالمي. توظيف الانتهازية التجارية على سبيل المثال لتحقيق مكاسب عاجلة له حدود، فهو يمارس ضغوطا على الدول الأضعف، لكنها سياسة لا تفلح مع الخصوم الأقوياء المصممين على الصمود في وجه الفوضى. ولذلك فإن هذا النهج مع ما يمكن أن يحققه سياسا وتجاريا وعسكريا من مكاسب تصنع عناوين في الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي يقتات عليها الشعبويون، يصبح سلاحا ارتداديا أكثر مضاء يهدد مصالح الدولة ويكتّل الأصدقاء والخصوم في وجهها مستقبلا لأن الثقة التي تبنى مع تراكم السنين يمكن أن تنهار في فترة قصيرة، وإعادة بنائها صعب جدا ويتطلب وقتا أطول.
الواقعية جوهر العلاقات الدولية، والسياسة لعبة مكررة ومخاطرها عالية. قد تُجدي عمليات السلطة الغاشمة نفعا، وتحقق مكاسب ضد أعداء أو منافسين ضعاف، لكنها تشكل جوهر التحالفات المضادة والردع الاستراتيجي للخصوم الأقوياء. يغدو الأمر أكثر خطورة في عالم متداخل المصالح، ومتصل ببعضه البعض، وتقع أطرافه في متناول الأسلحة النووية، وتعطس فيه السوق الأمريكية فتصاب بقية الاقتصادات بالحمى، إذ تكون عدم القدرة على التنبؤ بسلوكيات الشركاء أكثر تدميرا، مما يُحفز سباق التسلح وتقييد التجارة العالمية وتدفق المصالح المتبادل.
الساسة الفاعلون ينتهزون الفرص بحكمة، لكنهم يرسخونها في قابلية التنبؤ لبناء آمن دائم. على العكس فإن الذين يسعون وراء كل مكسب وبأية وسيلة ممكنة إنما يخاطرون بجني مكاسب تكتيكية مكلفة جدا، وهزائم استراتيجية مطلقة. الإستراتيجية الأكثر تطورا واستدامة ليست المفاجأة، بل تحول ضبط النفس إلى سلوك متوقع، يحكم قرارات الأصدقاء والأعداء، على حد سواء، من أجل مستقبل البشرية.