مرفت بخاري
الأمير بدر بن عبدالمحسن - من أولئك الذين يأتون إلى الدنيا وفي حناجرهم ضوء. شاعر لا يشبه زمنه، بل يطوّع الزمن ليشبهه. كتب القصيدة كما تُزرَع الوردة بصبر، وبعين ترى ما وراء اللون، وبقلب يعرف أن الجمال لا يحدث صدفة. في كل بيت كتبه، كان هناك شعور يمشي على حافة الوجدان، هادئ مثل نسيم الفجر، لكنه عميق بما يكفي ليوقظ ما نام في القلوب. لم يكن مهندس الكلمة لأنه أجاد صياغتها فحسب، بل لأنه بنى بها عالمًا كاملًا؛ عالمًا تسكنه الأرواح التي تبحث عن معنى، والقلوب التي تحتاج إلى صوت يشرح ما تعجز عنه. أضاء الشعور حين ضاق، وأضاء الحس حين اكتمل، ثم تركنا أمام قصائد تهدئنا حين نقرأها، وتوجعنا حين ننتهي منها.. كأن الشعر عنده وعدٌ بالراحة وومضة وجيعة في آن واحد. كان البدر قنديلاً من فطرةٍ صافية، وشاعرًا يمشي كما يمشي الضوء: لا يطرق بابًا، لكنه يدخل كل قلب فيجد فيه مكانه. في حضرته تتصالح اللغة مع نفسها، وتلين، وتصبح ماءً يمكن أن يُشرب ببطء. هو ذلك الصوت الذي علّم أجيالًا كاملة أن القصيدة ليست كلمات، بل حياة تُقطّر على هيئة حروف.
ورحل كما يرحل الكبار.. بلا ضجيج، وبأثرٍ يبقى طويلًا بعد الغياب. ترك وراءه إرثًا لا يُحفظ في الكتب فقط، بل في الذاكرة العميقة لهذا الوطن، وفي تلافيف أرواح الذين تربّوا على صوته، ووجدوا في قصائده مرآة كانوا يبحثون عنها ولم يعرفوا شكلها إلا حين كتبها لهم.
ويشهد الله إننا لا نكتب عنه كاسمٍ رحل، بل كنبضٍ ظل وما زال يضيء، نكتب عنه لأن بعض الرحيل لا يُطفئ الضوء، بل يزيده صفاء ولأن البدر، حتى بعد الغياب، ما زال شاعرًا يربّي فينا شيئًا من الطمأنينة، وشيئًا من الوجع الجميل الذي لا نريد له أن يشفى.
لم يكن البدر وحده في هذا الضوء.. فقد مرّ اسمه عبر ألسنة الأدباء كما تمر الريح على غصن مائل، فتقيمه. كل واحدٍ منهم حمل شيئًا منه؛ شاعرٌ يستعير من رهافته، وناقدٌ يقرأ دهشته، وكاتبٌ يقترب من لغته فلا يشبهها.. لكنه يتعلم منها. بدا وكأن وجوده كان مدرسة خفية، يدخلها الناس بلا أبواب ولا مناهج، لكنهم يخرجون منها أكثر فهمًا لأنفسهم.
صاحب السمو الأمير الشاعر خالد بن سعود الكبير يصف مشاعره بيقين في تجربة البدر الأدبية بحنين طاغٍ « كان الأمير بدر - رحمه الله- شاعرا عظيما باختصار شديد. كنت ولازلت من محبيه ومحبي شعره. لقد برع في الشعر النبطي والشعر الغنائي (شعر التفعيلة). وكان مهندساً للكلمة كما كان يُسمى جمعنا الله وإياه في الفردوس الأعلى من الجنة».
وكان للموسيقار الفنان جميل محمود بصمة في جمال الأثر الذي تركه فينا البدر بين أدبه وأخلاقه حين قال: (رحم الله الأمير بدر بن عبدالمحسن كان علما من أعلام المملكة العربية السعودية في الأدب والتوعية والتوجيه الصحيح في الأغاني والأخلاق وفي كل المثل التي يمثلها هو هامة كبيرة خسرناها وخسرتها الساحة الفنية والأدبية..
أسأل الله تعالى أن يجزيه خير الجزاء مقابل جمال عطائه الدائم في قلوبنا وأثره الباقي في حنايا الوجدان).
الشاعر الإماراتي الدكتور عبدالله الخياط في أحد لقاءاته الأدبية قال كان البدر رمزا من الرموز التي إضاءات لي مسيرتي الأدبية..
وعن الأثر الذي تركه البدر في نفسه قبل وفاته وبعد وفاته قال: حين أتحدث عن الأمير الراحل بدر بن عبدالمحسن، لا أتحدث عن شاعر رحل، بل عن مرحلة كاملة كانت الكلمة فيها أكثر من جملة موزونة. كان البدر مدرسة متفرّدة، ليس لأن مفرداته مختلفة، بل لأن إحساسه كان يترك أثرًا أبعد من حدود القصيدة.
كثيرون كتبوا، لكن البدر كان يصنع حالة.. حالة تجمع الرهافة وقوة الحضور، الشجن والذكاء، الصمت والصوت معًا.
بالنسبة لي، علاقتي بالبدر لم تكن علاقة قارئ بشاعر، بل علاقة تكوينية. كنت أتابع مسيرته، وأتتبّع تحوّلاته الفنية، وكيف كان يلتقط التفاصيل الصغيرة ليصنع منها عوالم كاملة. الصور التي كان يرسمها، تلك التي تحدّث الناس عنها، والتي غنّتها الأجيال والتي بقيت تطارد الوجدان لأنها لا تشبه إلا نفسها. استخدم مفردات نعرفها جميعًا، لكنه أعاد ترتيبها بطريقة تجعلنا نرى الحياة بزاوية مختلفة.
بعد رحيله، شعرت أن المشهد الشعري فقد توازنه للحظة، كأن الضوء الذي كان ينعكس من حرف البدر خفّ فجأة. ووجدت نفسي أعيد العبارة التي تلخّص شعوري بعد رحيله.. ذبلت أنوار الشوارع، وانقفل للشعر باب.
ليست مبالغة، بل هو تعبير عن فقدٍ عميق يتركه شاعر كان حضوره جزءًا من ذاكرة الناس، حتى الذين لم يقرأوه كانوا يشعرون بأن صوته مألوف، لأنه تسلّل إلى قلوبهم عبر الأغاني التي شكّلت وجدان جيلٍ كامل.
تأثّري به ليس انفعالًا عابرًا، هو امتدادٌ طويل لتجربة جعلتني أدرك أن الشعر الحقيقي لا يُقرأ فقط بل يُعاش، البدر كان يكتب ما نعيشه وما نخاف قوله وما نحلم به، كان يقف عند الحدّ الفاصل بين الشفافية والعمق، بين الفكرة والصورة، ويمنح القارئ إحساسًا بأن القصيدة كتبت خصيصًا له.
رحل، لكن أثره ما زال جزءًا من الذائقة العربية. ما زال صدى صوره الشهيرة، تلك التي تتحدث عن الفقد، عن العاطفة، عن الطريق، عن الإنسان.. ترافق كل من يؤمن بأن الشعر يمكن أن يكون صديقًا طويل العمر.
الفنان علي عبدالكريم تحدث عن جمال اثره في حياته وفي وفاته وكأنه يصف مشاعر الفقد مختلطة بمشاعر العشق للكلمة في آن واحد وكأنه أمام حالة شعورية يصعب وصفها: الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن، ليس مجرد اسم يمرّ على الذاكرة ثم يمضي؛ إنه أحد أوتاد الحسّ في هذا الوطن. أقرأ له فأشعر أن الكلمة ترتقي، وأن العاطفة تتهذّب، وأن الشعر يصبح مساحة أكثر نقاءً وعمقًا. لقد كان البدر قادرًا على أن يمنح اللغة روحًا إضافية؛ روحًا تمسّ القلب قبل أن تبلغ الأذن. كل قصيدة من قصائده تحمل لمسة إنسان عاش التجربة بصدق، ورأى العالم بعينٍ تتقن الالتقاط، وتعرف كيف تُعيد تشكيل الوجدان. وما خلّفه فينا لم يكن مجرد أثر أدبي، بل أثرٌ إنساني يعلّمك أن الجمال إذا صَدَق، بقي حيًّا في النفس مهما طال الزمن. إن البدر - رحمه الله - كان حالة فريدة، يجمع بين رهافة الشاعر وعمق المفكّر، ويترك في قارئه أثرًا يشبه الضوء: هادئٌ، ثابتٌ، وممتدّ. وكلما عدتُ إلى شعره، أدركتُ أن العظماء لا يرحلون كاملين؛ يبقى منهم ما يكفي لأن نواصل الإنصات. نعم إنه «البدر لم يكن يكتب القصيدة.. بل كانت القصيدة هي التي تكتب نفسها حين يقترب». إن صمته كان أبلغ من حضور كثيرين، وإن قلبه كان يعرف الطريق إلى المعنى قبل أن يعرف القلم طريقه إلى الورق. وهكذا تكاثرت الأصوات من حوله، لا لتصفه، بل لتشهد له.. شهادة تليق برجلٍ أصبح مرجعًا للذائقة قبل أن يكون شاعرًا كبيرًا.
والأثر الذي تركه فيهم - وفي كل من مرّ بصوته - لم يكن أثرًا يُرى بالعين، بل أثر يُحسّ: طريقة مختلفة في النظر إلى اللغة، ورفقًا إضافيًا في التعامل مع الجمال، وإيمانًا بأن الكلمة حين تُكتب بصدق تستطيع أن تُضمد شيئًا من العالم، ولو بقدر يسير. لقد نثر البدر شيئًا من روحه في كل من أحبه، ثم رحل.. لكن من العجيب أن أثره لم يتبع جسده، بل تبعهم هم؛ في كتاباتهم، في قصائدهم، في حساسيتهم الجديدة تجاه ما يلمع وما يختفي. كأن البدر لم يكن شاعرًا فقط، بل طاقة شعورية تنتقل بهدوء، وتكبر حين تُمسّ، وتُعلِّم كل من تلامس روحه أن الشعر طريقٌ لا يُكتب بالحبر وحده، بل يُكتب بالحياة نفسها.
البدر ليس مجرد اسم في قائمة الراحلين، بل صوتٌ يُعيد ترتيب الذائقة، ووجهٌ يُذكّر بأن بعض الناس لا يغيبون لأنهم لم يأتوا ليكونوا لحظة، بل ليكونوا امتدادًا. ولأن البدر تحديدًا.. كان ذلك الامتداد الذي يربط القلب بالشعر، واللغة بالنور، والإنسان بنفسه. حتى في صمته يصمت معه الزمان كتب «زمان الصمت» فصمتت القلوب وتحدثت النبضات عن حالة من العقاب لم تشهده من قبل لكنها عاشته بوجع؛ فشاعر الأحزان لم يمهل هذا الوجع حتى سطره بأوجع الوصف
وتِرحَل..
صَرخَتي تِذبَل
في وادي.. لا صدى يوصل
ولا باقي أنين
زمان الصمت..
يا عُمر الحُزن والشكوى
يا خطوة ما غدت تقوى
على الخطوة.. على هم السنين
حبيبي.. كتبت اسمك على صوتي
كتبته.. في جدار الوقت
على لون السما الهادي
على الوادي..
على موتي.. وميلادي
حبيبي.. لو أيادي الصمت
خذتني.. لو ملتني ليل
أنا عمري.. انتظاري