هدى بنت فهد المعجل
هناك لحظات في الحياة يبدو فيها الضوء ثقيلًا، ساطعًا حدّ الإرهاق، كأن الوهج الذي نطلبه بشغف منذ زمن يتحوّل فجأة إلى عبء يفضح هشاشتنا ويكشف ما لا نريد النظر إليه. في مثل تلك اللحظات، تتراجع الروح خطوة إلى الخلف، لا هروبًا من الحياة بل بحثًا عن بقعة ظل تستطيع فيها أن تتنفس دون أن تشعر بأنها مُراقَبة أو محسوبة على أحد. الظل ليس نقيض الضوء كما يُقال لنا، بل هو مساحة تختارها النفس حين يضيق الأفق، وحين يصبح الصمت أبلغ من أي كلمة.
هذه المساحة الرمادية التي نسمّيها «ظلًا» ليست حالة من الانطفاء، بل إحدى أشكال الوجود الأكثر صدقًا. فالإنسان، مهما بدا قويًا وسط الازدحام، يحتاج إلى منطقة آمنة يعود فيها إلى ذاته دون ضوضاء التوقعات. وفي العمق النفسي، يُعد الظل غرفة تطهير داخلي؛ مكانًا نضع فيه خيباتنا على الطاولة، ونسمح لمشاعرنا أن تتنفس بلا رتوش، ونفحص جروحنا لا لنبكي عليها، بل لنعرف أين وضعنا حياتنا في غير مكانها.
الفلسفة القديمة ربطت الظل بالجهل، وبالأشياء الناقصة، وكأن كل ما لا يراه الضوء يفقد قيمته. لكن الإنسان الحديث بدأ يدرك شيئًا مختلفًا: أن أكثر الأفكار نضجًا تولد في العتمة الهادئة، وأن صفاء البصيرة لا يأتي من الأماكن الفاقعة بل من الزوايا التي يتراجع إليها القلب كي يسمع نفسه من جديد. فالضوء قد يكشف التفاصيل الخارجية، لكنه قد يعمي العين عن رؤية الداخل. أما الظل فيعيد ترتيب المشهد، يطفئ الضجيج، ويمنحنا المسافة اللازمة لنرى ما يتخفّى خلف لمعان الحياة اليومية.
الهروب إلى الظل ليس انسحابًا من العالم، بل هو خطوة واعية نحو الداخل. يشبه الأمر مهندسًا يراقب بناية روحه من بعيد، ثم يقرر أن يرمّم شقوقها ببطء، بعيدًا عن أعين المتفرجين.
هناك، في ذلك الركن الهادئ، تُعاد صياغة الذات على مهل: تُدفن الأصوات العالية، ويُسمح للصوت الحقيقي - ذاك الذي اختفى طويلًا - أن ينساب دون خوف. والظل، على عكس ما نظن، ليس مكانًا باردًا. بل قد يكون أكثر دفئًا من الضوء؛ لأنه يوفّر على الروح عناء التجمّل والتظاهر، ويتركها كما هي: خامًا، صادقة، قريبة من حقيقتها الأولى.
وفي البعد النفسي الأعمق، يظهر أن الظل ليس مجرد ملجأ، بل مدرسة لترويض الذات. فهناك فقط نتعلم كيف نهدأ دون أن نشعر بالذنب، وكيف نقف دون أن نثبت شيئًا لأحد، وكيف نحب أنفسنا حتى حين لا نبدو في أفضل حالاتنا. الظل يعلّمنا ألا نركض خلف الضوء لأنه «الأصح»، بل لأننا نريده حقًا، وأن يكون خروجنا إليه فعل اختيار لا استجابة لضغط خارجي.
وفي النهاية، ليست الحياة سباقًا نحو السطوع، ولا اختبارًا لمدى قدرتنا على الظهور.
الحياة هي القدرة على التنقل بين الضوء والظل دون أن نفقد توازننا، ودون أن نسمح لأي منهما بابتلاعنا. وحين نتقن هندسة الظل، نفهم أن أكثر الأماكن أمانًا ليست تلك التي يراها الجميع، بل تلك التي لا يراها إلا نحن.. والتي نعود إليها كلما أردنا أن نكون صادقين مع أنفسنا.